مراسلة و كتابة بقلم : ذ. عبد الرحيم هريوى
لا يمكن أن نجامل أحدا في قولنا، بأن الفلاسفة والشعراء والفقهاء والأدباء مارسوا مهنة التعليم من أجل بناء الإنسان وإنقاده من براثين الجهل والأمية، والدفع بالمجتمع نحو الرقي والتقدم والازدهار، والمساهمة في تجديد نخبه، لتحمل مشعل البحث العلمي والتطوير المعرفي ومنافسة الآخر في أكثر من مجال، حتى يكون للبلد مكانته المرموقة بين الأمم، وتستمر هذه المكانة ما استمر رجل التعليم يساهم في تطوير العقليات وإنتاج النخب القادرة على الابتكار والإبداع والعطاء، ولها آرتباط ذاتي ومعنوي وعاطفي بتربة وطنها وقيمه الحضارية والتاريخية ؛ فلا تقدم ولا تنمية ولاحضارة تذكر لأي مجتمع كيف ما كان نوعه ،وكيفما كانت تركيبته البشرية، دون أن يشارك فيها رجال التعليم، وبصدق ونكران للذات وحب الخير للبلد والعباد، فيمكن أن نعكس كلامنا هذا على كل مجتمعات الدنيا التي تقدمت ثقافيا وعلميا وصناعيا وكانت لها حضارة ضاربة في أعماق التاريخ منذ الإغريق إلى الآن. فأرسطوا كان معلما، والفرابي والكندي وغيره. كما كان جل الفلاسفة عبر العصور البشرية ، و الذين كان لهم باع كبير في عالم الحكمة والمعرفة والبحث العلمي، حيث كانوا مرتبطين ارتباطا وثيقا بطلابهم، فجلهم مارسوا مهنة التدريس في أكبر الجامعات العالمية...
وكذلك العلماء في جل المجالات العلمية والثقافية والأدبية احترفوا مهنة نبيلة يقدرها العالم بأسره إنها مهنة التعليم، تلك المهنة الشريفة... فحتى أعز الخلق ونبي الرحمة سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم جاء في معنى كلام حديثه صلى الله عليه وسلم :( إنما بعثت معلما) ،ورغم أن هذا الحديث يعتبر ضعيفا فقصدنا منه مغزاه اللفظي ومضمونه الرمزي والمعنوي لمقاربة موضوعنا لاغير.
إن للمعلم دورا مهما وكبيرا جدا في المجتمع، لأنه يساهم بالقسط الأكبر في تكوين إنسان الغد، ويهيئ لنا بنك الاحتياط المناسب لجميع القطاعات الحيوية للمجتمع ، فالمعلم هو الذي يساهم فعلا وبدون نقاش في انتاج الكفاءات والقدرات البشرية على اختلاف أصنافها وأنواعها، مما يجعله عنصرا فعالا في بناء المجتمع وتطوره ونموه والمساهمة في خلق الثروة وتقوية الإنتاج وبناء الحضارة على جميع المستويات، من خلال تكوين الإنسان المناسب والمثالي والكفء لكل مرحلة من مراحل المجتمع الذي ينتمي إليه .وفي غياب رجل التعليم واختفائه وتهميشه وعدم إعطائه مكانته الرمزية والاعتبارية يصاب المجتمع بمختلف الأمراض الاجتماعية التي تبدأ في نخر جسمه الاجتماعي، مما يجعله غير قادر على البناء والتأسيس للحاضر والمستقبل في غياب الطبيب الذي يساهم في علاج كل الانحرافات والقيم الفاسدة لدى شبابه وشاباته داخل حجرات الدرس ومن خلال الأنشطة التربوية والتعليمية الهادفة والتي تساهم في إطفاء كل السلوكات التي تساهم في تخلف المجتمع وتفككه واندحاره ...
لكل هذا حذرنا الدكتور المهدي المنجرة عالم المستقبليات رحمه الله في معنى كلامه حيث قال :إذا ما أردت أن تهدم حضارة أمة عليك باستهداف ثلاثة أشياء في الأمة(1-اهدم الأسرة 2-اهدم التعليم 3-اسقط القدوات والمرجعيات)، أولها الأم قم بتغييب دورها واجعلها تخجل من وصفها (ربة بيت). لأن الأم هي الأرض وهي الأصل في التربية كما مدحها الشاعر حين قال: الأم مدرسة، إذا أعددتها //أعددت شعبا كامل الآوصاف. ولكي تهدم التعليم عليك بالمعلم ،لاتجعل له أهمية في المجتمع ،وقلل من مكانته حتى يحتقره طلابه. ولكي تسقط القدوات والمرجعيات، عليك بالعلماء، اطعن فيهم، وقلل من شأنهم، شكك فيهم حتى لايسمع ولا يقتدي بهم أحد .فإذا اختفت الأم الواعية ...واختفى المعلم المخلص ... وسقطت القدوة والمرجعية ...فمن يا ترى، يربي النشء على القيم؟
...نعم عليك بمنظومة قيم المجتمع، ولتصل إليها وتذمرها تذميرا خطيرا ،عليك برجل التعليم اقتل مكانته في المجتمع، و قم بكل شئ يجعل المجتمع ينفر منه ويحط من قيمته...وهذا هو أخطر عمل ...ونكون مثل سفينة لها طابقين واحد في الأسفل والآخر في الأعلى، وفي كل طابق ركابه، فعندما يحتاج ركاب الأسفل الماء يصعدون إلى الأعلى ليسهل عليهم جلب الماء، لكن ركاب الطابق العلوي منعوهم من الصعود، فهددهم ركاب الطابق السفلي بإحداث خرق في السفينة للحصول على الماء...فهنا إن تركوهم يفعلون فعلتهم هلكوا جميعا بتسرب الماء إلى داخل السفينة...
وحتى نكون منصفين في مقالنا هذا، ونتذكر قولة عمر بن الخطاب رضي الله عنه حين قال :رحم الله من أهدى لي عيوبي...فرجال التعليم في بلدنا العزيز منهم من يقوم بمهمته على الوجه الأكمل ويزيد بما هو تطوعي ،لأبناء الشعب حسب المستطاع والظروف طبعا ، ويدعوالله أن يبارك له في قوته وسمعه وبصره وعلمه حتى يقوم برسالته النبيلة بمسؤولية ونكران للذات ،ويصدق فيه قول الشاعرأحمد شوقي ، والذي لم يأت من فراغ:
قم للمعلم وفه التبجيلا......كاد المعلم أن يكون رسولا
فالأنبياء والرسل عليهم السلام أجمعين جاءوا ليعلموا الناس وينقدونهم من عبادة الأشياء إلى عبادة رب الأشياء، ومن ظلمات الشرك إلى نور التوحيد. ولم يكن فكرهم متجه نحو جمع الثروة، فالأنبياء لم يورثوا دينارا ولادرهما وإنما ورثوا العلم... فالذي ينتمي إلى عالم أهل العلم والمعرفة كيفما كان شأنه وكيفما كانت مكانته لا ينتظر الثروة والمال مقابل عمله النبيل هذا، فالله سبحانه يقول في كتابه العزيز:
((مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20].
فلا ينتظر رجل التعليم المقابل المادي مهما كانت قيمته، حتى ينخرط في بناء وتكوين أجيال بلده حاضرا ومستقبلا، لأن العمل الذي يقوم به أجره لايساويه ثمن مهما كان. إلا الأجر والثواب من الله عز وجل ،لأن التعليم له ارتباط وثيق بالقيم وبما هو رمزي داخل المجتمع.
ولاننكر التواجد الفعال والذكي لرجال التعليم ، خلال ستينيات وسبعينيات وحتى ثمانينيات القرن الماضي، فقد كانوا رجالا على حق، وصدقوا في عملهم وساهموا في تكوين الأحزاب والجمعيات والنقابات وكان لهم تواجد كبير سواء في الساحة الثقافية أو السياسية أو الاجتماعية، وكان لهم دور كبير في تطوير أكثر من قطاع في المجتمع، وكان انتماؤهم حقيقي للطبقة المتوسطة ومن تم إلى الطبقة المثقفة في المجتمع ككل... فكان رجل التعليم يبدأ معلما بأحد الدواوير القروية وبعدها ينطلق في التفكير في تحسين وضعه الاعتباري بتسلق المراتب عن طريق تثقيف نفسه والانخراط في البحث العلمي والتحصيل المعرفي في مختلف الشعب والتخصصات ، ليتنقل عبر جميع أسلاك التعليم، وما أكثرهم الآن، أو تقاعدوا أطال الله في عمرهم لأن منهم من تتلمذنا على يديه، فقد وصلوا إلى مناصب سامية ، دون إهمالهم لواجباتهم اليومية داخل حجرات الأقسام، وانخراطهم الفعال في جميع المشاريع الاجتماعية والثقافية والرياضية المفتوحة في زمانهم...فمنهم من أمسى محترفا في الكتابة والأدب والشعر والصحافة والمسرح أو مدربا رياضيا أوغيره.
لهذا نقول، فرجل التعليم له عدة أدوار كثيرة ومتنوعة يجب أن ينخرط فيها ويمارسها بعزة نفس، و ليست مهمته الأولى والأخيرة هي سوى هضم المحتويات الدراسية وتبليغها في مجموعة من الدروس تم تحديدها في الزمن والمكان من خلال إيقاعات زمنية محددة...المعلم فاعل اجتماعي وسياسي ونقابي وصحفي وثقافي...لأنه مصباح من مصابيح المجتمع المضيئة ، و التي تنير بضوئها الظلام الدامس في المجتمع، ليتمشى الآخر من ورائه في سكينة واطمئنان، هادئا مطمئنا نحو المستقبل من أجل البناء والتقدم والازدهار والرقي والحضارة.قال تعالى(أَوَمَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا ۚ كَذَٰلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُوا يَعْمَلُون )) صدق الله العظيم .الأنعام الآية122 .انتهى