عرف المغرب ككل البلدان العربية والإسلامية احتلالا غربيا طابعه الجمع بين الصليبية والعلمانية المعادية للإسلام . وترتب عن هذا الاحتلال خروج العالم العربي والإسلامي من مرحلة تاريخية إلى أخرى . وبفعل هذا الاحتلال تغيرت معالم الحياة في هذا الوطن بسبب الاحتكاك به . ومما نشأ في الوطن العربي والإسلامي بفعل الاحتكاك بالاحتلال إلى جانب الصدام والمقاومة ظواهر أهمها الظاهرة الحزبية . ولقد كانت الظاهرة المعروفة في المغرب قبل الاحتلال ظاهرة الفرق الدينية خصوصا الطرقية . وارتبطت الظاهرة الحزبية منذ نشأتها في المغرب بالدين ،ذلك أن رواد هذه الظاهرة كانوا من العلماء خرجي جامع القرويين والمعاهد التي كانت على شاكلته . وكان للمشرق العربي دور كبير في انتشار الظاهرة الحزبية حيث قلد المغاربة المشارقة في هذه الظاهرة التي دخلت الوطن العربي بسبب الاحتلال الغربي . وارتبطت الظاهرة الحزبية بقضية الاستقلال حيث كانت المطالبة بالاستقلال على رأس الممارسة السياسية للظاهرة الحزبية في فترة الاحتلال . ومباشرة قبيل الاستقلال وبعيده عرفت الظاهرة الحزبية الانشطار بسبب تسرب الإيديولوجيات الغربية على اختلافها إلى هذه الظاهرة . ونشأ الصراع الحزبي بين نفس الفرقاء الذين كانت تجمعهم الظاهرة الحزبية الواحدة . وبلغ الأمر حد تصفية الحسابات فيما بين هؤلاء الفرقاء . وبقدر ما كانت قضية الاستقلال تجمع بين هؤلاء الفرقاء في فترة الاحتلال بقدر ما صارت تفرقهم بعيد الاستقلال مباشرة . وبعدما كانت الظاهرة الحزبية في بدايتها تخص النخبة المتعلمة من المنتسبين إلى المعاهد الدينية ، صارت بسبب المطالبة بالاستقلال انشغالا شعبيا اجتاح البوادي والقرى والحواضر حيث اقترن التحزب في أذهان سواد الشعب بالمقاومة حتى صار غير المنخرط في الظاهرة الحزبية في حكم العميل والخائن . وظهرت فكرة الارتزاق بالانتماء الحزبي بسبب فكرة التخوين التي كان الناس يخشونها . وهكذا صارت بطاقات الانخراط الحزبي مثل صكوك الغفران . وويل لمن أدركه الاستقلال وليس معه صك حزبي يشهد له بالانتماء إلى المقاومة ويحميه من نقمة الظاهرة الحزبية. ووقعت جرائم رهيبة بعيد الاستقلال بسبب الصراع الحزبي الذي عرفته الظاهرة الحزبية المنقسمة على نفسها . وبعد الاستقلال انتقلت الظاهرة الحزبية إلى مرحلة جديدة ، وهي مرحلة التوازنات الحزبية حيث بدأت التموقعات الحزبية يمينا ويسارا . وصارت الظاهرة الحزبية عندنا تعرف أحزاب الولاء للنظام ، والأحزاب المعارضة له . وكانت ما يسمى أحزاب المخزن وسيلة لكبح جماح أطماع الأحزاب التي كانت تستهدف النظام ، وكان بعضها يريد التخلص منه جملة وتفصيلا ، خصوصا بعد ظهور ظاهرة الانقلابات العسكرية فيما يسمى العالم الثالث حيث كان الرادكاليون من العسكر يسقطون الأنظمة الحاكمة بالقوة ، ويحلون محلها . وبقدر ما كانت تزداد ضراوة معارضة الأحزاب بقدر ما كانت يزداد قساوة النظام عليها . وظلت كفة الأحزاب الموالية للنظام أو التي خلقها النظام راجحة لعقود من السنين . وفي ظروف تضييق النظام على الأحزاب المعارضة خاصة الراديكالية ،نشأ تعاطف كبير معها خصوصا في الأوساط المثقفة التي اعتمدت فكرة تسويق إيديولوجياتها بين الناشئة خصوصا في المؤسسات التربوية ، ومن خلال بعض البرامج الدراسية التي كانت تستغل لأغراض حزبية أكثر مما تستخدم لأغراض تربوية وتعليمية محضة . وبقدر ما كان النظام يحرص على أن تكون المناهج الدراسية موجهة للنشء الوجهة التي يريدها ، بقدر ما عملت الأطر التربوية المحزبة إلى التعامل معها وفق ما يخدم صراعها السياسي مع النظام . ومعلوم أن انخراط الناشئة في الظاهرة الحزبية يبدأ مجرد تقليد أعمي في غياب الوعي السياسي الكامل ، ثم يصير بعد ذلك إدمانا وتعصبا ، ثم يصير في نهاية المطاف مصلحة خاصة ووصولية وانتهازية . وهكذا أخذت الأحزاب المعارضة توفر روافد مواردها البشرية من أغرار الناشئة في المؤسسات التربوية ، والذين يصيرون أطرها و مناضليها بعد حين . وفي المقابل كانت أحزاب النظام توفر لنفسها روافد مواردها البشرية أيضا من الأغرار في المؤسسات التربوية أيضا تحت تأثير الإغراءات ومناصب الشغل . ومن خلال تنافس أحزاب النظام وأحزاب المعارضة على الشعبية ، نشأت ظاهرة الارتزاق الحزبي في هذا المعسكر وفي ذاك ، ولم تعد الممارسة الحزبية عبارة عن قناعات تحكمها مبادىء سياسية معينة بل صارت ممارسات تحكمها المصالح الخاصة . وكما كان الناس في فترة الاحتلال يحرصون على الانتماء الحزبي لاقترانه بالمقاومة ودفعا لتهمة الخيانة ، فقد صاروا في فترة الاستقلال يحرصون عليه لاقترانه بمعارضة النظام في البداية ثم بالمصالح الخاصة فيما بعد . فكم من وظائف ومناصب كانت ولا زالت تنال على أساس الانتماء الحزبي لا على أساس الخبرة والكفاءة ، لأن الأحزاب درجت على توفير بطانات لها من أتباعها في مختلف القطاعات العمومية ، وهو ما يمكن تسميته بحرب المواقع بين الأحزاب داخل هذه القطاعات العمومية . وبعد مرحلة تضييق النظام على الأحزاب المعارضة جاءت مرحلة ما يسمى بالانفراج السياسي حيث انخرطت هذه الأحزاب في المشاركة في تدبير شؤون البلاد ، وهو أمر كان قاصرا على أحزاب الدولة لعقود طويلة . وتبين بعد تجربة أحزاب المعارضة أنها لا تختلف في أدائها عن أداء أحزاب المخزن من حيث الحرص على المصالح اخاصة ، وفقد المواطن العادي الثقة في الظاهرة الحزبية جملة وتفصيلا بعدما تبين له أن أحزاب المخزن وأحزاب المعارضة سيان . وكما حرص النظام على التوازن بين الأحزاب التي كانت تعارضه من خلال خلق أحزاب موالية له تواجهها ، فإنه حرص على نفس التوازن لما ظهرت ظاهرة الجماعات الدينية المشتغلة بالسياسة والمعارضة له . وفي بداية الأمر منع النظام فكرة نشوء الظاهرة الحزبية الإسلامية جملة وتفصيلا إلا أنه مع مرور الزمن قبل بالأمر الواقع، ورضي بظاهرة حزبية إسلامية معتدلة من أجل مواجهة ظاهرة الجماعات الدينية المتطرفة ،لأن الظاهرة الحزبية الإسلامية المعتدلة أهون عليه من ظاهرة الجماعات الإسلامية المتشددة خصوصا بعدما دخل الغرب بزعامة الولايات المتحدة في حرب ضارية مع ما يسمى الإرهاب وهو الإشارة إلى ممارسة أشكال الصراع مع الغرب ، والتي تنسب للجماعات الإسلامية المتطرفة . ومع ظهور الظاهرة الحزبية الإسلامية المعتدلة ، وتعاطف الشعب معها اضطر النظام مرة أخرى إلى اعتماد أسلوب التوازن من خلال خلق أحزاب موالية له تسد مسد الأحزاب الموالية له الشائخة والتي وظفها لعقود من أجل مواجهة الأحزاب المعارضة إلا أنها لم تعد تقدم له الخدمة المطلوبة منها. وهكذا عرفت الظاهرة الحزبية تجميع فلول وأخلاط من مناضلي مختلف الأحزاب من أجل تكوين الحزب المعارض للظاهرة الحزبية الإسلامية الناشئة . ولقد تم تجميع هذه الأخلاط بنفس الأسلوب الذي كانت توفر بواسطته الأحزاب روافد لمواردها البشرية. وتهافت أصحاب المصالح الخاصة على الانخراط في الحزب المعارض للظاهرة الحزبية الإسلامية المعتدلة بعد تغيير جلودهم الحزبية بسبب وعود بمناصب في القطاعات العمومية ، وهي وعود تحقق الكثير منها ،الشيء الذي أغرى الكثيرين من أصحاب المصالح الخاصة بالانخراط في حزب يوفر لهم ما لم توفره لهم أحزاب أخرى . وفي غمرة التهافت على الظاهرة الحزبية المصلحية جاء الربيع العربي ومن ضمنه الربيع المغربي الذي رفع شعار محاربة الفساد ، فتبخرت أحلام أصحاب المصالح بعد فوز الظاهرة الحزبية الإسلامية المعتدلة في الاستحقاقات الانتخابية . وبسبب هذه الظاهرة المقلقة سواء للأحزاب التقليدية أو المفبركة من طرف النظام بدأت ظاهرة تغيير قيادات الأحزاب التقليدية من أجل تلميع صورتها أمام الرأي العام ، واستعدادا لخوض الاستحقاقات المقبلة . ولهذا يشتد اليوم الصراع ويحتدم بين الظاهرة الحزبية الإسلامية المعتدلة ، والظاهرة الحزبية المصلحية المختلقة المتحالفة مع الظاهرة الحزبية الشائخة . والمستقبل سيكشف عن نتائج هذا الصراع المحتدم . وهكذا تستمر الظاهرة الحزبية عندنا في التشكل بأشكال مختلفة حسب الظروف السياسية المهيمنة على البلاد والمتأثرة بالظروف السياسية العالمية . ويمكن أن نقول بأن الانتساب إلى هذه الظاهرة الحزبية صار انتماء يعتمد المصالح الخاصة بالدرجة الأولى بعيدا عن المبادىء . وكما أن عداوة النظام لم تكن دائمة مع أحزاب المعارضة ، ولا مع الجماعات الإسلامية فمن غير المستبعد أن تعرف الظاهرة الحزبية عندنا مسارات جديدة ما دامت فكرة عدم وجود صداقات أو عداوات دائمة بل مصالح دائمة هي الفلسفة المهيمنة على السياسة العالمية المعاصرة . محمد شركي نشر في وجدة البوابة يوم 18 - 12 - 2012