الرؤية الاستراتيجية لإصلاح التعليم عند ابن خلدون

ذ.عبد الحق التويول

باحث مغربي

مما لا شك فيه أن الرجوع إلى مقدمة ابن خلدون واستنطاق أبواب الكتاب وفصوله ، خصوصا الباب السادس من الكتاب والذي خصصه للعلوم وأصنافها والتعليم وطرقه ووجوهه ، وكذلك الفصول التي اندرجت ضمن هذا الباب ، كفيل بأن يدفعنا لنقول أن العلامة ابن خلدون - رحمه الله - لم يحز قصب السبق فقط في علم الاجتماع والتاريخ والجغرافيا وسياسة الدولة بكتابته الكافية الوافية فيها وكلامه الدقيق عنها  ، وإنما حازه كذلك في علم البيداغوجيا والديداكتيك من خلال نظرته المتكاملة الأطراف التي استطاع من خلالها أن يقدم رؤية استراتيجية واضحة المعالم للنهوض بالتعليم والتعلم باعتبارهما رافعة  أساس لبناء المجتمع وازدهار العمران .

إن رؤية ابن خلدون لإصلاح التعليم انطلقت من  تشخيص الداء ، وانتهت بوصف الدواء. ذلك أن ابن خلدون رحمه الله من خلال مشواره التعليمي التعلمي استطاع أن يدرك مكامن الخلل في المنظومة التعليمية التي كانت سائدة آنذاك خصوصا فيما يتعلق بمناهج تأليف الكتب المدرّسة ، وطرق تلقين العلوم ، فضلا عن الأساليب البيداغوجيا التي كان ينهجها المدرسون والتي كانت تلعب دورا في تردي الوضع التعليمي وتضر به أكثر مما تنفع .

إنه وبالرجوع إلى التشخيص الدقيق الذي قام به ابن خلدون رحمه الله للوقوف على أعطاب  المنظومة التعليمية نجده يفحص مكامن الخلل بدقة ويحصرها في ثلاث :

الخلل الأول : مناهج تأليف الكتب 

لا يمكن بتاتا تصور عملية تعليمية تعلمية في غياب الكتاب المُدرّس ، فهو ركن مهم في الثالوث الديداكتيكي ( المعلم ، المتعلم ، الكتاب) ، كيف لا وهو الوعاء الذي يحوي المعرفة والقيم والمهارات الموجهة للمتعلم والتي ينبغي أن تراعي قدراته وحاجياته التعلمية والمهارية ، من هنا  كان الكتاب في صلب اهتمام ابن خلدون ولذلك ألفيناه  يشن هجوما شرسا على منهجية  تأليفه وينتقدها من وجهين : 

الحشو الممل حيث قال : اعلم أنه مما أضر بالناس في تحصيل العلم والوقوف على غاياته كثرة التآليف ، واختلاف الاصطلاحات في التعليم وتعدد طرقها ، ثم مطالبة المتعلم باستحضار ذلك ، وحينئذ يسلم له منصب التحصيل ، فيحتاج المتعلم إلى حفظها كلها أو أكثرها ومراعاة طرقها ، ولا يفي عمره بما كتب في صناعة واحدة إذا تجرد لها فيقع القصور ولا بد دون رتبة التحصيل . 

إن كثرة التآليف التي تحدث عنها ابن خلدون رحمه الله واعتبرها مما يخل بالتعليم ، هي ما يمكن أن نسميه في زماننا بطول المقررات  وكثرتها ، والتي تعتبر العائق الأكبر والسد الأعظم الذي يحول بين متعلمي زماننا وبين تحصيلهم للعلم ، ولا تساعد إلا  رسوخ  ملكة الغش وتثبيت مهارات التحايل والمكر والخداع التي تعين على تجاوز هذه المقررات بسهولة وتمكن من  تحصيل شواهد أقل ما يمكن أن يقال عنها أنها شواهد زور لا أقل ولا أكثر .

الاختصار المخل : قد يعتقد البعض أن ابن خلدون رحمه الله لما انتقد التآليف الكثيرة والمطولة المحشوة بكثرة المعارف والمعلومات  باعتبارها من عوائق التعلم ، أنه يرى الخلاص في الاختصار ، بل على العكس ، فابن خلدون رحمه الله ينتقد كذلك كثرة الاختصارات باعتبارها مما يخل بالتعليم أيضا ، لأن فيها تخليطا على المبتدئ بإلقاء الغايات من العلم عليه ، وهو لم يستعد لقبولها بعد ، فيصبح الكتاب عبارة عن رموز مستعصية الحل ، ولهذا أكد ابن خلدون أن في الاختصار شغل كبير بتتبع ألفاظ الاختصار العويصة للفهم بتزاحم المعاني عليه وصعوبة استخراج المسائل من بينها ، فتصبح هذه الألفاظ المختصرات صعبة عويصة ، فينقطع في فهمها حظ صالح من الوقت ، دون تحصيل الملكات النافعة وتمكنها   .

إن خطورة هذا الاختصار المخل وذاك الحشو الممل تكمن في كونهما يلغيان شخصية المتعلم ولا يلقيان أدنى اهتمام  لقدراته العقلية ولا يراعيان استعداداته لقبول  العلم  ، فضلا عن كونهما يقتلان فيه رغبة التعلم فيتكاسل عنه وينحرف عن قبوله إلى أن ينتهي به المطاف إلى هجرانه ، وهذه معضلة كبرى ، والله المستعان .

الخلل الثاني : طرق التدريس

يراد بطرق التدريس باختصار مجموع الخطوات والإجراءات والمهارات التي يوظفها المعلم لتنظيم عمله ولبلوغ هدفه بسهولة ، وهي متنوعة وكثيرة ، ولا شك أن الطريقة  التعليمية سلاح ذو حدين ،  فهي قد تلعب دورا في حصول التعلمات ورسوخ الملكات وبالتالي تحقق الأهداف والغايات ، وقد تعلب دورا آخر في استثقال العلم والنفور منه .

من هنا نجد العلامة ابن خلدون رحمه الله يرفض نموذج التعليم القائم على ثنائية المعلم الملقي والمتعلم الحافظ  (أو ما يمكن أن نسميه بثنائية الصنبور والإناء ) دون أن تكون بينهما جسور الحوار والنقاش في بناء الدرس وحصول التعلمات ،  مما يكون سببا في عسر حصول الملكة و الحذق في العلوم  وينعكس سلبا على المتعلم الذي يصبح عاجزا عن الحوار والمناظرة والتصرف في مخزونه العلمي المحفوظ ، يقول ابن خلدون في هذا الشأن  : فتجد طالب العلم منهم ( يقصد الذي يحفظ أكثر مما يفهم) ، بعد ذهاب الكثير من أعمارهم في ملازمة المجالس العلمية ، سكوتا لا ينطقون  ولا يفاوضون وعنايتهم بالحفظ أكثر من الحاجة ، فلا يحصلون على طائل من ملكة التصرف في العلم والتعليم ، ثم بعد تحصيل من يُرى منهم أنه قد حصل ،تجد ملكته قاصرة في علمه إن فاوض أو ناظر أو علم  .

إن هذه الطريقة القائمة على التلقين دون حوار وعلى الحفظ دون فهم  لا تؤدي في آخر المطاف إلا إلى إنتاج متعلم مشحون بمعارف كثيرة ، لكنه  غير قادر على التعبير عنها ولا يقوى على  الحوار مع الآخر ومناظرته والدفاع عن رأيه ، وهذه مشكلة كبرى وخلل جسيم .

بالإضافة إلى هذه الطريقة التي انتقدها ابن خلدون هناك طريقة أخرى لا تقل خطورة عن سابقتها وهي تلك التي تقوم على إلقاء المسائل المقفلة القريبة من الألغاز على المتعلم بادئ الدرس ، ثم مطالبته بإحضار ذهنه في حلها ، فهذه يعتبرها ابن خلدون مضيعة للوقت وليست من طرق التعليم في شيء ، يقول رحمه الله : وقد شاهدنا كثيرا من المعلمين لهذا العهد الذي أدركنا يجهلون طرق التعليم وإفادته ، ويحضرون  للمتعلم في أول تعليمه المسائل المقفلة من العلم  ، ويطالبونه بإحضار ذهنه في حلها ، ويحسبون ذلك مرانا على التعليم وصوابا فيه  

لعل هذه الطريقة التي تحدث عنها ابن خلدون هنا وانتقدها  في هذا المقام هي ما يعرف في البيداغوجيات الحديثة  بطريقة حل المشكلات والتي تقوم على جعل المتعلم يحس  في بداية الدرس وكأنه يواجه مشكلة ما أو أمام عائق معين  لا يمكنه تخطيه إلا باستحضار مكتسباته ومهاراته  السابقة ، وهذه طريقة معروفة في زماننا وفي مدارسنا غير أنها ومن خلال التجربة تبقى طريقة مشكلة في حد ذاتها وتشكل عائقا للمعلم قبل المتعلم خصوصا إذا صيغت بطرق عشوائية لا تستجيب لمكوناتها ولا تراعي واقع المتعلم وقدراته العقلية ومكتسباته القبلية .

 الخلل الثالث : التعامل مع المتعلم 

لما كان المتعلم ركنا مهما في العملية التعليمية التعلمية ، فقد حظي باهتمام بالغ من طرف العلامة ابن خلدون رحمه الله الذي أكد  على ضرورة  مراعاة شخصيته وقدراته العقلية واستعداداته النفسية في بناء أي عملية تعليمية تعلمية ،ولذلك ألفيناه يحذر من إثقال المتعلم بالمقررات الطويلة والتآليف الكثيرة التي قد يفنى في طلبها دون جدوى ، وكذلك ينبه على خطورة  تقديم العلم له مختصرا على شكل ألغاز يحار في حلها ، كما يدعو إلى تجنب الاكتفاء بإلقاء العلم عليه جافا دون حوار أو مناقشة ومطالبته بحفظ ذلك كله حتى يسلم له منصب التحصيل  .

هذا ومما حذر منه ابن خلدون أيضا وبقوة هو الشدة على المتعلم وتعنيفه والغلظة عليه ياعتبارها  سلوكات غير تربوية وتضر أكثر مما تنفع ، قال رحمه الله : إن إرهاف الحد في التعليم مضر بالمتعلم ، سيما في أصاغر الولد ، لأنه  من سوء الملكة ، ومن كان مرباه بالعسف والقهر من المتعلمين أو المماليك أو الخدم ، سطا به القهر وضيق عن النفس في انبساطها ، وذهب بنشاطها ودعاه إلى الكسل وحمل على الكذب والخبث ، وهو التظاهر بغير ما في ضميره ، خوفا من انبساط الأيدي بالقهر عليه ، وعلمه المكر والخديعة لذلك وصارت له عادة وخلقا ، وفسدت معاني الإنسانية التي له من حيث الاجتماع والتمدن ، وهي الحمية والمدافعة عن نفسه ومنزله ، وصار عيالا على غيره في ذلك   .

يتبين من هذا الكلام أن ابن خلدون رحمه الله إنما انتقد الشدة على المتعلم  لأنها تنعكس عليه سلبا من وجهين : أولهما أنها تضيق مسالك الرغبة والإقبال على التعلم لديه وقد تجعله يكره العلم والمعلم معا فيفتر ويتكاسل ويتحايل ، ثانهما : أن الشدة والعسف والقهر يرهف الحس ويذل الشخص ويجعله عالة  على غيره ، غير قادر على قضاء أبسط حوائجه والذود عنها ، وفي ذلك فساد كبير وضرر خطير.

من هنا نرى كيف أن العلامة ابن خلدون قد استطاع تشخص الداء بدقة ووضع إصبعه  على الحرج  بحكمة متمكنا بذلك من رصد مكامن الخلل التي تجعل التعليم غير ذي جدوى ولا يرجى منه أدنى ثمرة ، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على خبرة الرجل ودرايته بميدان التعليم  من خلال تجربته وباعه الطويل فيه ، كما يدل كذلك على رؤيته المتبصرة الفريدة بهذا الميدان ، وهي الرؤية التي اكتملت واستوت على سوقها بوصف الدواء الذي يتأتى به الإصلاح والخروج من هذه الأعطاب .

إن الرؤية الإصلاحية لإبن خلدون في ميدان  التعليم تقوم على التركيز على ضروريات العلم وأساسياته دون الخوض في التفاصيل والجزئيات المعقدة والكثيرة التي تدخل المتعلم في دوامة من التيه والحيرة  دون تحصيل أدنى فائدة ، وهو رحمه الله بهذا  يدعو إلى أن يكون التعليم كيفيا لا كميا ،  يقوم على احترام المراحل العمرية للمتعلم وقدراته العقلية وعدم إلقاء غايات العلم مختصرة معتصرة عليه قبل أن ينضج لتلقيها ولفهمها ، مع ضرورة مراعاة التدرج في ذلك شيئا فشيئا  والتكرار مرة تلو أخرى  ، قال رحمه الله : اعلم أن تلقين العلوم للمتعلمين إنما يكون مفيدا ، إذا كان على التدريج ، شيئا فشيئا وقليلا قليلا ، يلقى عليه أولا مسائل من باب من الفن  هي أصول ذلك الباب ، ويقرب له شرحها على سبيل الإجمال ويراعى في ذلك قوة عقله واستعداده لقبول ما يرد عليه ، حتى ينتهي إلى آخر الفن ، وعند ذلك يحصل له ملكة في ذلك العلم ، إلا أنها جزئية وضعيفة ، وغايتها أنها هيأته لفهم الفن وتحصيل مسائله ، ثم يرجع به إلى الفن ثانية  ، فيرفعه في التلقين عن تلك الرتبة إلى أعلى منها ، ويستوفي الشرح والبيان ، ويخرج عن الإجمال ، ويذكر له ما هنالك من الخلاف ووجهه ، إلى أن ينتهي إلى آخر الفن فتجود ملكته ، ثم يرجع به وقد شدا فلا يترك عويصا ولا مبهما ولا منغلقا إلا وضحه وفتح له مقفله  ، فيخلص من الفن وقد استولى على ملكته   .

هذا من جهة ، من جهة أخرى عرفنا كيف أن ابن خلدون انتقد التعليم القائم على الحفظ المجرد عن الفهم والذي تُنتهج فيه طريقة الإلقاء الجاف ، ولذلك وجدناه  بالمقابل يمتدح التعليم القائم على الحوار  باعتباره مسلكا مهما ينمي للمتعلم مهارات النقاش والجدال والمناظرة وإبداء الرأي والدفاع عنه وإقناع المخالف .

أما فيما يتعلق بالشدة فابن خلدون لم ينتقدها على اطلاقها وإنما انتقد الشدة غير التربوية وهي تلك التي تكون من أجل الشدة وفرض السلطة والاستقواء والاستبداد لا غير ، فهذه هي المذمومة لأنها لا تخلق إلى جيلا مُعنفا ماكرا وضعيف الشخصية ذليلا ، أما الشدة التربوية التي تكون بغاية التأديب والتهذيب فهي أمر مطلوب ولا حرج فيها  بشرط أن لا تزيد على ما حدده الشرع وألا تخرج عن المنهج ، قال ابن خلدون : ومن أحسن مذاهب التعليم ما تقدم به الرشيد لمعلم ولده ، قال خلف الأحمر : بعث إليّ الرشيد في تأديب ولده محمد الأمين فقال : يا أحمر إن أمير المؤمنين قد دفع إليك مهجة نفسه وثمرة قلبه ، فصير يدك عليه مبسوطة وطاعته لك واجبة ، فكن له بحيث وضعك أمير المؤمنين ، أقرئه القرآن وعرفه الأخبار وروّه الأشعار وعلمه السنن ، وبصره بمواقع الكلام وامنعه من الضحك إلا في أوقاته ،  وخذه  بتعظيم مشايخ بني هاشم  إذا دخلوا عليه ، ولا تمرن بك ساعة إلا وأنت مغتنم فائدة تفيده إياها من غير أن تحزنه ، فتميت ذهنه ، ولا تمعن في مسامحته فيستجلي الفراغ ويألفه ، وقومه ما استطعت بالقرب والملاينة ، فإن أباهما فعليك بالشدة والغلظة  

فيفهم من هذا أن الشدة المطلوبة هي التي تأتي كآخر حل بعد استنفاذ مجموعة من الطرق القائمة على المنع والحرمان المؤقت من الشيء ، وعدم الإمعان في المسامحة  ، والتقويم بالقرب والملاينة ، فإذا لم تنجح هذه الطرق والأساليب حينها يُلجأ إلى الشدة والحزم الذي يمكن أن يصل إلى الضرب ، لكن الضرب الذي قال عنه محمد بن أبي زيد في كتابه الذي ألفه في حكم المعلمين والمتعلمين قال : لا ينبغي لمؤدب الصبيان أن يزيد في ضربهم إذا احتاجوا إليه على ثلاثة  أسواط شيئا .

وهو الضرب الذي قال عنه حبيبنا صلى الله عليه وسلم مربي المربين ومعلم المعلمين : ( مُرُوا أولادَكم بالصلاةِ وهم أَبْنَاءُ سَبْعِ سِنِينَ، واضْرِبُوهُمْ عليها، وهم أَبْنَاءُ عَشْر)   وهو صلى الله عليه وسلم يقصد الضرب الذي يأتي بعد الأمر والنهي والتحبيب والترغيب والتقرب والتودد ... وهي الأساليب التربوية التوددية الحوارية الإقناعية  التي ينبغي أن تستمر ثلاث سنوات كما هو الشأن في تعليم الصلاة حسب منطوق الحديث ، حتى إذا لم تفلح هذه الأساليب كلها ولم يستجب الولد ، حينها يرخص للوالد في الضرب بشرط أن يتقى فيه الوجه وألا يكون ضربا مبرحا قد يلحق ضررا أكبر بالولد .وما يقال هنا  في تعليم الصلاة يقال في تعليم أمور الخير كلها بما في ذلك تعليم العلم الذي ينبغي أن يكون باللين والتودد والتحفيز ابتداء فإذا لم ينفع شئ من ذلك فُعّل الضرب والشدة لكن بتبصر وحكمة كما قال ابن خلدون رحمه الله .








 

google-playkhamsatmostaqltradent