التربوية والإكراهات القائمة
تتوصل المؤسسات الثانوية الإعدادية والتأهيلية، وعدد من المؤسسات الابتدائية، بداية كل موسم دراسي بسيل من طلبات السماح بمتابعة الدراسة الخاصة بالتلاميذ المنقطعين الذين تم تطبيق قانون التشطيب عليهم، أو الخاصة بأولئك الذين تم فصلهم بقرارات من مجالس الأقسام وذلك بعد استنفاذهم لسنوات التمدرس المسموح بها والتي ينص عليه نظام التمدرس.
هذه الظاهرة باتت لصيقة بمنظومتنا التعليمية، وأصبحت مؤرقة للآباء والتلاميذ، وللمسؤولين الإداريين والتربويين. ولقد عملت الوزارة منذ سنوات على إصدار مذكرات ومراسلات في الموضوع، كما دأبت الأكاديميات الجهوية والمديريات الإقليمية على التذكير بهذه النصوص محاولة بذلك ضبط العملية، والتذكير بمراميها وأهدافها النبيلة، والتأكيد على ضرورة إخضاعاها لمعايير تزاوج ما بين مراعاة الجانب الاجتماعي والتربوي والنفسي للتلميذ وأسرته من جهة؛ والجانب المتعلق بإكراهات بنيات الاستقبال المادية والبشرية من جهة أخرى.
وكثيرا ما تتوصل المؤسسات بطلبات يفوق عددها عدد المقاعد الشاغرة، الشيء الذي يعني عدم تلبية كم من الطلبات، مما يسبب في تكريس ظاهرة الهدر المدرسي والتي لا زالت متفاقمة في الوسطين الحضري والقروي، رغم المجهودات المبذولة لمحاربته المتمثلة في برامج الدعم الاجتماعي من مطاعم وداخليات وتوزيع للوازم والكتب المدرسية والنقل المدرسي وبرنامج تيسير وغيرها.
ومع ذلك، لا زالت نسب الاحتفاظ دون المستوى المأمول، ولا زالت ظاهرة الفصل والانقطاع متفشية، مما يطرح الأسئلة حول فعالية هذه البرامج وطريقة تنزيلها ونوعية ونسب المستفيدين منها.. والأكيد أنه يجب مضاعفة المجهود على مستوى هذه البرامج، والتركيز كذلك على مكافحة كل أسباب الظاهرة، وذلك بالتركيز على الأبعاد التربوية والنفسية لحصر الظاهرة والتغلب عليها، والعمل على جعل المؤسسة فضاء جذابا يمكن التلميذ من اكتشاف ذكاءاته وصقل مواهبه ويسهم في إقباله على الدراسة برغبة وشغف.
إن التلميذ المفصول عن الدراسة والتلميذ المنقطع عنها هما معا نتاج منظومتنا التربوية، وارتفاع عدد المفصولين والمنقطعين يسائلنا جميعا كمسؤولين عن التعليم وكإداريين ومدرسين وآباء وأيضا كتلاميذ، فالكل مسؤول عن استفحال الظاهرة. والتصدي لها لا ينبغي أن تكون على حساب التلميذ باعتباره حلقة أضعف، بل يجب أن توجه المعالجة لما فيه صالحه باعتباره محور العملية التعليمية التعلمية. فإذا لم تستطع المدرسة احتضان التلميذ في سن مبكرة، فأي فضاء آخر سيحتضنه؟
وللحد من تبعات الظاهرة، وأملا في الاحتفاظ بالتلاميذ أطول مدة ممكنة داخل المنظومة التربوية، أصدرت الوزارة عددا من المذكرات المنظمة لعملية إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين، ومن أبرز هذه المذكرات نذكر المذكرة رقم 118 بتاريخ 25 شتنبر 2003 في شأن إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين عن الدراسة، والمذكرة رقم 137 بتاريخ 04 أكتوبر 2006 في موضوع إرجاع التلاميذ المفصولين والمنقطعين عن الدراسة. وكانت الطلبات بداية تعالج على مستوى المديريات الإقليمية، وكانت نسبة تلبية الطلبات كبيرة، مما ساهم في إنقاذ المسار الدراسي لبعض التلاميذ بإعطائهم فرصا للاستدراك. وفي مرحلة ثانية، وتفعيلا لمهام مجالس المؤسسة وتجسيدا لمنح استقلالية أوسع للمؤسسات التعليمية في اتخاذ القرار التربوي، أسندت لمجالس الأقسام على مستوى المؤسسات التعليمة مهمة البت في الطلبات وذلك لكون الأساتذة والأطر الإدارية هم الأقرب للتلاميذ.
وقد تم التنصيص بداية على السماح بالعودة إلى الدراسة للتلاميذ الذين لم يتجاوز عمرهم 16 سنة، ووضع مقاييس موحدة للبت في باقي الحالات، تأخذ بعين الاعتبار النتائج الدراسية والسلوك والسن والوضعية الصحية والاجتماعية للمعنيين بالأمر، وكذا معطيات الخريطة المدرسية في اتجاه الاستغلال الأمثل للتجهيزات والموارد البشرية. كما تم التنصيص على ضرورة تتبع سير إنجاز العملية من طرف المديريات الإقليمية واتخاذ الحلول المناسبة بخصوص توزيع التلاميذ بين المؤسسات في حالة الاكتظاظ. ولضبط العملية بشكل أكبر، وسعيا إلى الرفع ما أمكن من نسبة الطلبات المقبولة، جاءت المذكرة 137 لتذكر من جديد بضرورة الاحتفاظ بالتلاميذ أكثر ما يمكن داخل النظام التربوي، وتؤكد على ضرورة التعامل بمرونة مع القرار الوزاري المنظم للدراسة، وتجنب التسرع، قدر الإمكان، في فصل التلاميذ، مع رفع السن المسموح به لإرجاع التلاميذ.
إن الممارسة الميدانية، أثبتت أن بعض المجالس، ونظرا لاعتبارات متعددة، موضوعية وذاتية، لا توافق على كل الطلبات المقدمة إليها، بل من المجالس من لا تسمح إلا بإرجاع نسبة ضعيفة جدا. ومن بين الأسباب نذكر التخوف من استفحال ظاهرة الاكتظاظ في الأقسام، خصوصا في التعليم الثانوي التأهيلي، أو التخوف من الرفع في البنية التربوية للمؤسسة وما يستلزمه ذلك موارد بشرية إضافية، وربما يصطدم إجراء قبول الطلبات بإكراهات الخصاص في بنيات الاستقبال المادية. وقد يرفض طلب التلميذ لأن المؤسسة سبق لها أن بتت في طلب للمعني من قبل، كما لا تحظى عدد من الطلبات بالقبول بسبب السلوكات غير المرغوب فيها التي سبق للمعنيين القيام بها في فضاء المؤسسة. وربما رفض المجلس الطلبات بعد مناقشة مستفيضة استحضرت التجارب السابقة لمستعطفين سمح لهم بالرجوع إلى الصفوف الدراسية، وعانت معهم الأطر الإدارة والتربوية الأمرين بسبب سلوكاتهم غير التربوية.
إن تعدد قراءات المذكرات والمراسلات المنظمة وتعدد تأويلاتها، وتباين المؤشرات التربوية بالمؤسسات التعليمية جعل من مسألة دراسة طلبات المنقطعين والمفصولين إشكالية حقيقية ترخي بثقلها على الطاقم الإداري والتربوي بالمؤسسة وعلى الأسر أيضا، وكما قلنا سلفا، ينبغي تغليب خيار المعالجة التربوية باستحضار مرامي العملية وأهدافها. علما أن العملية، وإن كان البت فيها من اختصاص مجالس الأقسام، فيجب أن تحظى بتأطير وتتبع من طرف المديريات الإقليمية للرفع من حصيلتها وتجويد مردوديتها...
إن القاعدة في معالجة الطلبات يجب أن تكون هي القبول، أما الرفض فيجب أن يكون استثناء وأن يبنى على دواع موضوعية ومبرات قوية، لذلك على المؤسسات أن تتجنب التشدد في قبول التلاميذ المفصولين والمنقطعين، فالمرونة واجبة، واستحضار الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والنفسية المحيطة بالتلميذ ضرورة منهجية في عملية البت في طلبات الرجوع إلى الدراسة. وسعيا للإنصاف وتفادي كل ما من شأنه أن يشوش على العملية أو يقدح في موضوعيتها، يمكن اعتماد مجموعة من المعايير منها عدد سنوات التمدرس، والسن، والحالة الصحية والنفسية، والاجتماعية، والدواعي والمبررات المعبر عنها في الطلب، والنتائج الدراسية، ومختلف المعلومات المدونة في ملف التلميذ، إضافة الى استحضار البنية التربية للمؤسسة.
إن استحضار كل هذه المعطيات يمكن من تفادي ربط قرار المجلس فقط بسلوك غير مقبول أو رد فعل سبق أن قام به التلميذ في لحظة ما، وترتب عنه انعقاد مجلس تأديبي اتخذ قرار عقوبة ما في حق التلميذ، وساهم هذا القرار بشكل أو بآخر في عدم نجاحه وبالتالي فصله عن الدراسة لأنه استوفى سنوات التمدرس.
كما أن استحضار هذه المعطيات، يجنبنا الوقوع في خطا إعادة تطبيق القانون الذي تم به فصل التلميذ من طرف مجالس الأقسام الخاصة بدراسة طلبات المفصولين والمنقطعين، (أي الفصل بسبب استنفاد سنوات التمدرس)، فهذا يعد من الأخطاء الشائعة في دراسة الطلبات، والتي يسقط فيها بعض رؤساء مجالس الأقسام وأعضاء هذه المجالس من المدرسين، مما يجعل هؤلاء التلاميذ لا يستفيدون من الغاية النبيلة لهذه العملية، والاستفادة بالتالي من فرصة جديدة في إطار محاربة الهدر المدرسي والحفاظ على التلاميذ أكبر مدة زمنية ممكنة في الفصول الدراسية. فإعادة تطبيق نفس القرار يجعل المجلس لا يقبل، مثلا، جميع طلبات التثليت في بعض المستويات التي يمنع فيها رغم المبررات التي يتم تقديمها.
إن إعادة اعتماد العدد المسموح من سنوات التمدرس من طرف مجالس دراسة في طلبات الاستعطاف يتعارض مع غايات العملية المتمثلة في محاربة الهدر المدرسي والاحتفاظ ما أمكن بالتلاميذ في الصفوف الدراسية.
إن استحضار المعايير السابقة يمكن المجلس من اتخاذ قرار قبول طلب المعني واعطائه فرصة جديدة تبعا للمبررات المقدمة وتبعا لغايات العملية، وهذا القرار يدرج في ملف التلميذ، ويسمح بموجبه بمتابعة الدراسة بشكل قانوني، ولا مانع، عن رأى المجلس ذلك، أن يقوم التلميذ أو ولي أمره بتعبئة التزام يتعلق بالسلوك والانضباط وما تنص عيه مواد القانون الداخلي للمؤسسة.
ومن غير المنطقي، أن يتم مطالبة التلميذ بتغطية فترة غيابه كلها، والتي تتجاوز أحيانا السنة، بشواهد طبية، خصوصا إذا لم يكن السبب المباشر في انقطاعه متعلقا بظروف صحية. فهذا شرط تعجيزي. وليس من المنطقي أن يخبر المعني أو ولي أمره، أن طلبه مقبول، لكن بشرط تغيير المؤسسة، فأحيانا لا تتواجد مؤسسة أخرى في نفس الجماعة، وربما يتم رفض استقبال المعني بمؤسسة أخرى. فالتلميذ منتوج مؤسسته، وهي المخول لها دراسة حالته. لكن يمكن اللجوء إلى إعطاء فرصة للتمدرس في مؤسسة أخرى في جو تربوي جديد، وذلك بتنسيق مع المصالح المختصة في المديرية الإقليمية.
وأحيانا يتم التسرع بتبرير الرفض بعامل الاكتظاظ، لكن، وباستحضار المقاربة التربوية، أليس من الأفضل احتضان المعنيين من طرف المؤسسة التعليمية، ولو تطلب الأمر بعض الزيادة في معدلات التلاميذ في كل قسم؟ طبعا هذا أفضل بكثير من الزج بهم في مآل لن يكون في الغالب بأحسن من أن يجد له مقعدا في المؤسسة التعليمية. كذلك، فالتلميذ الذي سبق له أن تقدم من قبل بطلب في هذا الشأن، وتم فصله أو انقطع عن الدراسة لسبب من الأسباب، فلا مبرر لإقصائه من حق التقدم بطلب من جديد. كذلك ينبغي التذكير أن الجهة المخول لها دراسة الطلبات هي المؤسسة التعليمية، فلا مبرر لرفض استقبال الطلبات من طرف المؤسسة، أو إحالة المعنيين وأوليائهم على المديريات الإقليمية.
إن ما ذكر أعلاه يتعلق بشكل أكبر بإشكالية معالجة مجالس الأقسام لطلبات التلاميذ المنقطعين والمفصولين عن الدراسة، وما تطرحه من صعوبات على مستوى قراءة وتأويل النصوص، وفهم لأبعاد العملية، وصعوبة الأجرأة في مؤسسات لا تخلو من إكراهات مادية وبشرية. غير أن الظاهرة لا يمكن اختزال معالجتها أبدا في دراسة في الطلبات، إنما هي أكبر من ذلك، ومعالجتها ليست بالأمر الهين، لهذا يجب التفكير في برامج طموحة استباقية للقضاء على الظاهرة، واعتماد مقاربة تراعى فيها كل الجوانب والأبعاد والعوامل المؤثرة في التلميذ ومحيطه، وتعتمد برامج للدعم التربوي والنفسي والتتبع والمواكبة لفائدة التلاميذ المستفيدين من العملية وذلك ضمانا لانخراطهم واندماجهم في المؤسسة التعليمية. كما تتطلب معالجة الظاهرة فهما وتعبئة ورغبة من طرف المسؤولين ومن طرف الشركاء، وتتطلب توفير بنيات الاستقبال والموارد البشرية الضرورية الكافية والمؤهلة.
عبد الكريم بن رزوق
مفتش في التوجيه التربوي
الجديدة