سر نوارة والأم أريناس

جلست نوارة والخوف يسكن عينها، هي الآن تصفف شعرها أمام المرآة. لاحت لها والدتها أريناس بالانعكاس الخلفي للمرآة. تخيلت أن الأم  تحمل المشط التاريخي. لازالت نوارة تذكر الطفلة الصغيرة التي كانت تركض بين زوايا الغرفة وهي لا تريد من الأم فك خصلات شعرها بمشط قرن الثور. ابتسمت لحظتها وأتمت تمرير المشط الصناعي برفق على رأسها. إنه إحساس رهاب المؤثرات السلبية للماضي، لكن الأم عالجته بلمسة حنان على انسياب شعرها الكثيف. 
صورة مربع المرآة تجمع أريناس الأم الحكيمة و طفلة الماضي القريب المدللة. صدق ما يستوثق من انعكاس صورة المرآة والوضعية الحقيقية، هو أن نوارة بدأت تبحث عن تعريف لذاتها، عن وجود الآخر المفقود في حياتها.  تعريف ذات لن تجده نوارة بالمرة عند تقابلية صورتها بصورة الأم فقط، بل في البحث عن مركز تواجد أسيف.
نعم، اختلاف التموقع و التموضع الزماني، اختلاف الحمولة الفكرية التعليمية والتحولات الاجتماعية، اختلاف تراتبية الأجيال وكفى، هو ما جعل نوارة تنهض من فوق الكرسي وتقبل يد أمها أريناس، وتمدها بابتسامة لطيفة مع يد المساعدة للجلوس. قبل الجلوس، بسملة الأم وهي تنادي على الصالحين من عبد القادر الجيلالي إلى الشيخ الكامل، إنها المعتقدات العرفية الرديفة بالتصوف البسيط.
لفت نوارة برفق عنق أمها ضما بيدها بمتم انحناءة افتقدتها منذ الزمن البعيد، منذ سن الطفولة والمراهقة المفزعة.  لكن الأم أرادت كشف أمر آخر بالبينة القطعية، أرادت علانية أن تنظر في عيني نوارة بالحوار الهادئ. حينها سحبتها الأم إلى الجلوس أمامها. فما كان من نوارة  إلا الإستجابة الطوعية والفورية. 
وفي خفة جسم نوارة النحيل، جلست قاب قوسين بالقرب من الأم، ووضعت كفيها على فخدي أمها. فيما المثير أن العقل الباطني لنوارة يشتغل بحده الأقصى، حيث أوحى لها بأن  الوالدة  أريناس في جعبتها متنوع أسئلة إخبارية تهم حياة ابنتها.
اتخذ شكل رأس نوارة طأطأة سليمة كزهرة عباد الشمس أمام كلمات الأم المتوالية. فاستهلت الوالدة أريناس قولها بالصلاة على النبي (ص) وهي تلازم حركة الإبهام الذي يحرك السباحة والشفاه بالتتابع. ابنتي نوارة حياتي، ما عساي أن أقوله لك وأنت يوما عن يوم يسكنك الألم الداخلي وتزدادين نحافة، يسكنك الخوف الدائم من المستقبل القادم. أين بسمة الفرح المدوية بالضحك؟ أين شغبك غير المحدود؟ هنا عرفت نوارة أن أمها أحست بالتغيير الذي سكنها منذ اللقاء الأول بأسيف. هنا نوارة أرخت جسمها أرضا ورفعت عينيها إلى الأم بالمباشر. لكن السيدة أريناس لم تعر كل تلك الحركات المتتالية اهتماما،  بل ناولتها بالسؤال المباشر، ما الحدث يا ابنتي؟.
دواخل نوارة تفور بالصدق والبوح بالسر الدفين للأم، لكن صياغة الكلمات لم تسعفها بالتناسق، لسانها لم يتحرك من مكانه، في حين قلبها أشعل خفقانا وتدفقا للدم السريع بجميع نواحي جسمها. حكمة أريناس جعلتها تتجنب الضغط بسؤال موال بالتعري لحقيقة متغيرات حياة ابنتها، لكنها سهلت الأمر عليها حين سألتها عن الرجل غير المكتمل الصورة في مرسم نوارة.
آه  يا نوارة ، لقد فطنت الأم إلى عمق المشكلة بخبرتها الحياتية. أحدثت نوارة أكثر من صوت ككحة خفيفة، وكأنها تدفع الخجل عن لسانها. تململت ذات الشمال وذات اليمين، وهي التي لم تخف يوما عن أمها سرا مهما صغر أو كبر حجمه اتساعا. إنه أسيف أمي، اسمه أسيف الآتي من نبع أعالي الأطلس، إنه أسيف أمي الذي سحبته من أصغر حفرة في أرض الحياة برفق . صوته أمي لازال يسكنني رنينا، يلفني في منامي بحرير النعيم والسعادة ، يعانق وجودي في يقظتي ومرقدي. إنه أسيف أمي، الذي كان تقايس أجسامنا بالبعد مدويا،  إنه أسيف أمي الذي امتلك قلبي وفكري ولا أدري مسلكا له.
في عمق تفكير الأم عرفت انه الحب الذي استولى على قلب ابنتها بالإسم والملمح فقط ، فيما عنوان الحبيب يبقى مجهولا. لم تعر أريناس كلام نوارة بالتعليق الأخلاقي ولا بالرفض، بل استمرت في حديثها بهدوء متناه . هل أصبحت تحبين من لا عنوان له؟ . سكتت نوارة لبضع ثوان متتالية ثم حركت رأسها بالإيجاب الخجولي. لكن الأم كانت الأسرع في السؤال الموالي، ولما لم تكملي رسم الصورة؟ هنا أحست نوارة بمغزى قول الأم، وفهمت بالمباشر لما أسيف لم يأت لخطبتك؟ . ما أصعب السيوف القواطع للأم  أريناس إن جردت بالمباشر! . أجمعت نوارة جسمها من الأرض وقوفا، وتحركت بالغرفة طولا وعرضا. أمي الحب الذي أؤمن به ليس رواية شرقية بختامه يتزوج الأبطال، وإنما أمي حبي تجاه أسيف هو إبحار ضد التيار، في حين شعوري بالوصول إلى أسيف أعلنه لك بأنه محال.
تململت الأم من فوق الكرسي مستعملة دعائم عكازها الطبي، وسحبت رجليها في بلغتها خروجا من الغرفة ، فيما كان ظهر نوارة يوالي الباب ولازالت تعدد مدى عشقها لأسيف رغم بعد أمكنة  التواجد، فهي تؤمن بالقطع بتوحد القلوب بالإقتراب،  معلنة أنها ستظل ترقب وعد أسيف لها باللقاء الثاني، ولن أخلف أمي وعدي له ولو طال الإنتظار.
اكتشفت نوارة فراغ الغرفة من أمها حين استدارت صوب الباب ، فابتسمت صمتا، وأكملت تصفيف شعرها ، وهي تردد ، لازالت أذكر أنها كانت تصفف شعرها، خجلى تحملق حولها، كم كان يغمرني السنا، كالطفل أنظر للدنى، والطير ترقص حولنا، لا زلت أذكر همسها،حتى ارتعاشة جفنها... حينها قالت نوارة بدفيئة صوتها، أغدا تلاقينا روحين كنا ها هنا.
ذ محسن الأكرمين :mohsineelak@gmail.com
google-playkhamsatmostaqltradent