بقلم ذ المصطفى فرحان
يتميز التعليم في العصرالحديث بالتنظيم والتخطيط القبليّيْن، ويتدرّج المتعلم في أسلاكه من مرحلة لأخرى ومن سلك لآخر، وخلال هذا الترقّي يُصادف المتعلم تغييراً في التّسميات التي تُطلق عليه: فتارة نُسمّيه تلميذا، وتارة أخرى يجِدُ نفسه طالباً، ثم يصبح طالباً باحثاً. فما هو الفرق بين هذه الإطلاقات الثلاثة: التلميذ والطالب والطالب الباحث؟
إن كل مصطلح من هذه المصطلحات، يغطي مرحلة تعليمية بعينها، تتّسم بخصائص عقلية وسلوكية مخالفة بصورة واضحة لخصائص المرحلة الأخرى؛ ذلك أن التلميذ يتفاعل مع المعرفة بطريقة مُباينة لطريقة تفاعل الطالب أو الطالب الباحث، ثم إن المختصين لما أطلقوا هذه التسميات لم يطلقوها عبثا؛ بل إن لكل مصطلح منها حمولة لغوية ودلالة اصطلاحية واستعمالات عرفية وخصائص علمية تميزه عن المصطلحيْن الأُخرَيَيْن. وإليك تفصيل القول في الفرق بين المصطلحات الثلاثة؛ حتى يتّضح أمرها لديْك ويتبيّنْ:
أولا: التلميذ
وردت كلمة (تلاميذ) في معاجم اللغة بمعنى الأتباع والخدم ومفردها (تلميذ)، وهو من لزِم معلما وتَتلْمذَ (تعلّم) على يديْه. وفي اللغة الانجليزية؛ فإن كلمة (pupils) أخذت في التلاشي، وهي كلمة أصلها فرنسي (pupille) ،وتعني يتيم أوقاصر تحت الرعاية، وتستعمل في الإنجليزية للتمييز بين الطالب والتلميذ؛ إذ إن (student) تعني طالب، أما (pupils) فتعني تلميذ. وتُشير كلمة (pupils) إلى المتعلمين الصغار حتى سن 16 سنة.
التلميذ هو من لزِم معلماً؛ ليساعده ويُوجّهه أثناء اكتساب وبناء تعلماته ومعارفه، وقد جرى العُرف والقانون على أن يُقصد باصطلاح التلميذ: ذلك الفرد الذي يتابع دراسته في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية. وجمعه تلامذة وتلاميذ. ويمكن أن نسميه بالطالب الصغير.
فالمسألة إذن، لها علاقة وطيدة بالعمر ومستوى النضج، فعمر التلميذ يكون صغيرا؛ بالتالي لا يستطيع تدبير كل أموره لوحده؛ لذلك فهو مُلزم بالحضور إجباريا؛ لأن إدارة الوقت مسؤولية الأستاذ. والتلميذ يَعتمد في تعلّمه بشكل كبير على الأستاذ والمادة المقدمة من خلاله. وعليه؛ فإن التلميذ هو الذي يتلقّى المعرفة وهو واقع في صميم الدهشة العقلية، مما يجعل بناءه للمعرفة تواكبه ردودُ فعلٍ نفسية وعقلية وسلوكية خاصة.
ثانيا: الطالب
كلمة (طالب) عامة تدل على عموم الطَّلَب: فمنْ طلبَ العلم هو طالبُ علمٍ وليس (طالباً) فقط، ومن طلبَ الرزقَ هو طالبُ رزقٍ، ويمكن أن نقول: طالبُ حق وطالب خبز...إلخ. ولا يوجد في قواميس اللغة كلمة (طالب) لوحدها بمعنى (طالب)، فكلمة (طالب) تُستعمل عرفاً، وجرت العادة على إطلاقها على الفرد الذي يتابع دراسته في الجامعة أو الكلية أو المعهد العالي. وجمعها طلاب وطلبة. وفي اللغة الانجليزية تستخدم كلمة (student) للدلالة على المتعلم الجامعي.
وفي السنة النبوية: روى أبو داود في سننه عن كثير بن قيسٍ قال: كنتُ جالسًا مع أبى الدَّرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجُلٌ فقال: يا أبا الدَّرداء، إنِّي جئتُك من مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم لحديثٍ بلَغَني أنَّك تُحدِّثُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئتُ لحاجةٍ، قال: فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه علمًا، سلَك الله به طريقًا من طُرُق الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم.." (1)، وجاء في حديث صفوان بن عسال قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد مُتّكِئ على بُرْد له أحمر فقلتُ له: يا رسول الله إني جِئت أطلب العلم فقال: " مرحباً بطالبِ العلمِ، إن طالبَ العلمِ لَتَحُفّه الملائكة بأجنحتها.."2
فهنا كل متعلم يسمى طالباً؛ فكذلك التلميذ هو طالبُ علمٍ، إلا أن لفظ التلميذ ينصَرف غالبا إلى الطالب الصغير، كما تمت الإشارة سالفا.
وفي واقعنا المعيش، يخضع الطالب أثناء انتقاله من المدرسة إلى الجامعة لتغيرات كثيرة، تفرضها عليه طبيعة البيئة والدراسة والمجتمع والطلبة، إلى جانب أهمية المرحلة الجامعية التي تعبّر عن بداية نضج الإنسان، وتُسهم في تشكيل شخصيته وبلورة أهدافه، وتجعل منه إنسانا فاعلا في المجتمع، من خلال تخصصه الذي اختاره لنفسه.
أما من حيث اكتسابُ وبناءُ المعرفةِ؛ فإن الطالب: هو الذي يكون قد تَجاوز ردود فعل الدهشة المعرفية الأولى، ودخل مرحلة التعمّق الناضج، والتعامل مع الكليات المعرفية، وممارسة أنماط من التركيب أشدّ تعقيداً من أنماط ممارسة التلميذ. فالطالب يعتمد بدرجة كبيرة على قدراته الفردية وفهمه الصحيح للمادة المقدمَة، ويعتمد كثيرا على المصادر والمراجع؛ بالتالي أصبح يُثري تعلمه ومعارفه بشكل زائد، فهو لا يعتمد كليا على ما يُقدمه الأستاذ، رغم أنه لا يمكنه الاستغناء عن المحاضرات؛ لأن القراءة الذاتية في هذا المستوى لا تُغني عن المحاضرات وليست بديلاً عنها.
ثالثا: الطالب الباحث
الطالب الباحث هو الشخص الذي يمتهن أو يشارك في إجراء البحث العلمي، وهي مهمة شائعة بين طلبة وأساتذة الجامعات ومعاهد التعليم العالي، في مختلف دول العالم. فالطالب الباحث يُتوَقع منه القدرة على النقاش العلمي، وتحليل النتائج والعمل باستقلالية على تطوير أدائه.
في هذا المستوى، وخاصة في سلك الدكتوراه، تُصبح إدارة الوقت مسؤولية الطالب الباحث وحده، ويكون الاعتماد أكثر على التعلم الذاتي بتوجيه من الأستاذ المشرف طبعاً.
كما يُفترض أن يكون تدرّج الطالب الباحث في البحث العلمي محكُوما بخطٍّ إنتاجِيٍّ بحثِيٍّ واضحٍ، قِوامه أساسيات البحث العلمي وطريقة التفكير النقدي؛ حتى يتأهّل للعمل في تخصصه الدقيق،لا أن يكون مجرد منفّذ لأفكار المشرف بحذافيرها.
ويمكن أن نتحدث عن مواصفاتٍ ثلاثٍ يتحتّم توافرها في الطالب الباحث، وهي:
1- العلم: فهو لا يتكلم بشبه العلم، فيتحرّى المادة العلمية عبر الفحص الدقيق، وِفق منهجٍ تحكُمه إجراءات محددة، فيعتمد على المصادر والمراجع كما يعتمدها الأستاذ، أي أنه يقوم بعملية الاستقصاء في تحرّيه للمادة المعرفية. ويعطي عملية التوثيق نصيبها من الاهتمام، فيجتنب النقل بواسطة، والسطو على أعمال الآخرين. ومن ثم يُعبّر عن رأيه بصراحة، ولا يقبَل الأشياء إلا بدليل؛ لأنه في هذا المستوى يمتلك الحرية في التفكير وفي الاختيار وفي العمل والانتقاد.
2- العدل: أي التجرد والموضوعية، فهو لا يتكلم بتحيّز؛ بل إنه يدور مع الدليل وجودا وعدما. فالباحث يتعيّن أن يكون مجردا عن هواه الذاتي وعن تمثلاته الانطباعية إلى أبعد ما يمكن. ولا بد له من امتلاك القدرة على التخلي عن قناعاته التي يظهر الدليل على أنها غير علمية، وعليه اتباع القاعدة الذهبية التي كان علماؤنا يَحتكمون إليها وهي: " إن كُنتَ ناقلاً فالصحة أو مُدّعياً فالدليل".
3- الأدب: فلا يتكلم بوقاحة، فهو ينقد بالدليل والبرهان مع الأدب والتقدير، ودون تقديس للأشخاص أو الأقوال، فينبغي أن يكون تفكيره حرا من غير تكبّر أو عُجب. نعم الجرأة محبّذة في الطالب الباحث، لكن دون تطاوُلٍ أو سوء أدب مع العلماء، وفي الوقت نفسه دون تقديس لا يبقى معه أثر لشخصية الباحث، فتكون عنده الثقة في النفس دون تفريط أو إفراط.
إضافة إلى هذه المواصفات الثلاث، لابد كذلك للطالب الباحث، أن يتميز بجملة من الخصائص التي تميزه عن الطالب والتلميذ ومن أهمها:
- المبادرة: أن يكون مبادراً، بمعنى أن لديْه نوع من الاستباقية في تعلمه، وهو يبادر دوما إلى القراءة وإنجاز مهام قبل أن يُطلب منه القيام بذلك، وكذا تجربة أشياء جديدة من تلقاء نفسه، فهو لديه فضول طبيعي وتعطش دائم للتعلم.
- البصيرة: لديه قدرة على فهم ما هو أبعد من المعلومات المقدمة، فهو قادر على تخمين الأشياء، وتمييزِ خميرها من عفينها، وقياس المعنى المقصود أيضا.
- الانضباط الذاتي: فهو قادر على إدارة وقته بكفاءة، ويُدرك أن الأمور يجب القيام بها كلٌّ في وقته وحِينه، وقادر على الوفاء بالمواعيد النهائية في جميع الحالات.
- الشك في الأحكام المعروفة: وذلك بإعادة النظر في الأحكام الشائعة والمعارف الانطباعية الناتجة عن تمثلات راسخة، والانتقال إلى الأحكام والحقائق العلمية التي تُبنى على الحجة والدليل، واعتماد المنهج العلمي القويم.
- الهمة والصبر وطول النفس: أي الرغبة الداخلية النابعة من ذات الباحث، والتي ينتُج عنها حب العلم والتعلم.
4: تــركيـــب
يمكن إجمالُ ما تم تفصيله من فرقٍ بين المصطلحات الثلاثة، في خلاصة تركيبية على الشكل الآتي:
التلميذ: فرد يحتاج في تعلمه دائما إلى من يُكسبه من الخارج ← نقل وبناء المعرفة ← والحديث هنا عن الوظيفة العلمية.
الطالب: قادرعلى التدريب والتمرن على استثمار المعرفة المكتسبة في حاجاته الذاتية والاجتماعية ← يعتمد على نفسه أكثر← والحديث هنا عن الوظيفة العملية.
الطالب الباحث: فرد انتقل إلى مَنطق التعلم الذاتي أو تعلم التعلم ← الانتقال من التركيز على المعرفة إلى التركيز على المنهج الموصل إلى تلك المعرفة ← الحديث عن الوظيفة المنهجية ← الوصول بالطالب أخيراً إلى إنتاج المعرفة.
بناء على ما سبق، يتعيّن على المؤسسات التعليمية أن تنتهض بالوظائف الثلاث المذكورة، بشكل متدرّج ولولبي؛ وصولاً إلى تخريج طلبةٍ باحِثِين حقيقِيّين، قادِرِين على تشغيل جميع المَلكات المُكتسبة خلال رحلة الطّلَب العلمي عبر جميع الأسلاك، وخاصة مهارات التفكير العليا؛ لكي يُصبح الطالب الباحث أخيراً، مُفكِّر المستقبل أو المثقّف العضوي بتعبير أنطونيو غرامشي، والشّمولي بتعبير ميشال فوكو، والأصيل بتعبير علي شريعتي، والثوري بتعبير محمد عابد الجابري؛ لذلك لا بد من إدراكٍ واعٍ لمفهوم الطالب الباحث، الذي يكون ثمرةً لمُخرجات جامعاتنا، وأن يكون لدينا تصورٌ واضحق ومتّفق عليه عن حقيقة هذا المفهوم، والشروط العلمية والمهارية والأخلاقية اللازم توافرها في الطالب حتى نصِفه بالباحث؛ من أجل النهوض الحقيقي الجادّ والمسؤول بالبحث العلمي.
(1) سنن أبي داود"؛ لأبي داود سليمان السجستاني، باب الحث على طلب العلم، رقم الحديث (3643)، دار الكتاب العربي، بيروت ص: (3 / 354).
(2) أخرجه الطبراني ( 54/8 ، رقم 7347 ، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ).
صاحب المقال: المصطفى فرحان
أستاذ التعليم الابتدائي الدرجة الأولى بمديرية تازة
أستاذ باحث في سلك الدكتوراه بمركز دراسات الدكتوراه سايس فاس بالمختبر العلمي والبيداغوجي
باحث في مناهج تدريس العلوم
البريد الالكتروني: farhanemustapha9@gmail.com
يتميز التعليم في العصرالحديث بالتنظيم والتخطيط القبليّيْن، ويتدرّج المتعلم في أسلاكه من مرحلة لأخرى ومن سلك لآخر، وخلال هذا الترقّي يُصادف المتعلم تغييراً في التّسميات التي تُطلق عليه: فتارة نُسمّيه تلميذا، وتارة أخرى يجِدُ نفسه طالباً، ثم يصبح طالباً باحثاً. فما هو الفرق بين هذه الإطلاقات الثلاثة: التلميذ والطالب والطالب الباحث؟
إن كل مصطلح من هذه المصطلحات، يغطي مرحلة تعليمية بعينها، تتّسم بخصائص عقلية وسلوكية مخالفة بصورة واضحة لخصائص المرحلة الأخرى؛ ذلك أن التلميذ يتفاعل مع المعرفة بطريقة مُباينة لطريقة تفاعل الطالب أو الطالب الباحث، ثم إن المختصين لما أطلقوا هذه التسميات لم يطلقوها عبثا؛ بل إن لكل مصطلح منها حمولة لغوية ودلالة اصطلاحية واستعمالات عرفية وخصائص علمية تميزه عن المصطلحيْن الأُخرَيَيْن. وإليك تفصيل القول في الفرق بين المصطلحات الثلاثة؛ حتى يتّضح أمرها لديْك ويتبيّنْ:
أولا: التلميذ
وردت كلمة (تلاميذ) في معاجم اللغة بمعنى الأتباع والخدم ومفردها (تلميذ)، وهو من لزِم معلما وتَتلْمذَ (تعلّم) على يديْه. وفي اللغة الانجليزية؛ فإن كلمة (pupils) أخذت في التلاشي، وهي كلمة أصلها فرنسي (pupille) ،وتعني يتيم أوقاصر تحت الرعاية، وتستعمل في الإنجليزية للتمييز بين الطالب والتلميذ؛ إذ إن (student) تعني طالب، أما (pupils) فتعني تلميذ. وتُشير كلمة (pupils) إلى المتعلمين الصغار حتى سن 16 سنة.
التلميذ هو من لزِم معلماً؛ ليساعده ويُوجّهه أثناء اكتساب وبناء تعلماته ومعارفه، وقد جرى العُرف والقانون على أن يُقصد باصطلاح التلميذ: ذلك الفرد الذي يتابع دراسته في المرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية. وجمعه تلامذة وتلاميذ. ويمكن أن نسميه بالطالب الصغير.
فالمسألة إذن، لها علاقة وطيدة بالعمر ومستوى النضج، فعمر التلميذ يكون صغيرا؛ بالتالي لا يستطيع تدبير كل أموره لوحده؛ لذلك فهو مُلزم بالحضور إجباريا؛ لأن إدارة الوقت مسؤولية الأستاذ. والتلميذ يَعتمد في تعلّمه بشكل كبير على الأستاذ والمادة المقدمة من خلاله. وعليه؛ فإن التلميذ هو الذي يتلقّى المعرفة وهو واقع في صميم الدهشة العقلية، مما يجعل بناءه للمعرفة تواكبه ردودُ فعلٍ نفسية وعقلية وسلوكية خاصة.
ثانيا: الطالب
كلمة (طالب) عامة تدل على عموم الطَّلَب: فمنْ طلبَ العلم هو طالبُ علمٍ وليس (طالباً) فقط، ومن طلبَ الرزقَ هو طالبُ رزقٍ، ويمكن أن نقول: طالبُ حق وطالب خبز...إلخ. ولا يوجد في قواميس اللغة كلمة (طالب) لوحدها بمعنى (طالب)، فكلمة (طالب) تُستعمل عرفاً، وجرت العادة على إطلاقها على الفرد الذي يتابع دراسته في الجامعة أو الكلية أو المعهد العالي. وجمعها طلاب وطلبة. وفي اللغة الانجليزية تستخدم كلمة (student) للدلالة على المتعلم الجامعي.
وفي السنة النبوية: روى أبو داود في سننه عن كثير بن قيسٍ قال: كنتُ جالسًا مع أبى الدَّرداء في مسجد دمشق، فجاءه رجُلٌ فقال: يا أبا الدَّرداء، إنِّي جئتُك من مدينة الرَّسول صلى الله عليه وسلم لحديثٍ بلَغَني أنَّك تُحدِّثُه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، ما جئتُ لحاجةٍ، قال: فإنِّي سمعتُ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم يقولُ: "مَن سلَك طريقًا يطلُبُ فيه علمًا، سلَك الله به طريقًا من طُرُق الجنَّة، وإنَّ الملائكة لتضعُ أجنحتَها رضًا لطالب العلم.." (1)، وجاء في حديث صفوان بن عسال قال: أتيتُ النبي صلى الله عليه وسلم وهو في المسجد مُتّكِئ على بُرْد له أحمر فقلتُ له: يا رسول الله إني جِئت أطلب العلم فقال: " مرحباً بطالبِ العلمِ، إن طالبَ العلمِ لَتَحُفّه الملائكة بأجنحتها.."2
فهنا كل متعلم يسمى طالباً؛ فكذلك التلميذ هو طالبُ علمٍ، إلا أن لفظ التلميذ ينصَرف غالبا إلى الطالب الصغير، كما تمت الإشارة سالفا.
وفي واقعنا المعيش، يخضع الطالب أثناء انتقاله من المدرسة إلى الجامعة لتغيرات كثيرة، تفرضها عليه طبيعة البيئة والدراسة والمجتمع والطلبة، إلى جانب أهمية المرحلة الجامعية التي تعبّر عن بداية نضج الإنسان، وتُسهم في تشكيل شخصيته وبلورة أهدافه، وتجعل منه إنسانا فاعلا في المجتمع، من خلال تخصصه الذي اختاره لنفسه.
أما من حيث اكتسابُ وبناءُ المعرفةِ؛ فإن الطالب: هو الذي يكون قد تَجاوز ردود فعل الدهشة المعرفية الأولى، ودخل مرحلة التعمّق الناضج، والتعامل مع الكليات المعرفية، وممارسة أنماط من التركيب أشدّ تعقيداً من أنماط ممارسة التلميذ. فالطالب يعتمد بدرجة كبيرة على قدراته الفردية وفهمه الصحيح للمادة المقدمَة، ويعتمد كثيرا على المصادر والمراجع؛ بالتالي أصبح يُثري تعلمه ومعارفه بشكل زائد، فهو لا يعتمد كليا على ما يُقدمه الأستاذ، رغم أنه لا يمكنه الاستغناء عن المحاضرات؛ لأن القراءة الذاتية في هذا المستوى لا تُغني عن المحاضرات وليست بديلاً عنها.
ثالثا: الطالب الباحث
الطالب الباحث هو الشخص الذي يمتهن أو يشارك في إجراء البحث العلمي، وهي مهمة شائعة بين طلبة وأساتذة الجامعات ومعاهد التعليم العالي، في مختلف دول العالم. فالطالب الباحث يُتوَقع منه القدرة على النقاش العلمي، وتحليل النتائج والعمل باستقلالية على تطوير أدائه.
في هذا المستوى، وخاصة في سلك الدكتوراه، تُصبح إدارة الوقت مسؤولية الطالب الباحث وحده، ويكون الاعتماد أكثر على التعلم الذاتي بتوجيه من الأستاذ المشرف طبعاً.
كما يُفترض أن يكون تدرّج الطالب الباحث في البحث العلمي محكُوما بخطٍّ إنتاجِيٍّ بحثِيٍّ واضحٍ، قِوامه أساسيات البحث العلمي وطريقة التفكير النقدي؛ حتى يتأهّل للعمل في تخصصه الدقيق،لا أن يكون مجرد منفّذ لأفكار المشرف بحذافيرها.
ويمكن أن نتحدث عن مواصفاتٍ ثلاثٍ يتحتّم توافرها في الطالب الباحث، وهي:
1- العلم: فهو لا يتكلم بشبه العلم، فيتحرّى المادة العلمية عبر الفحص الدقيق، وِفق منهجٍ تحكُمه إجراءات محددة، فيعتمد على المصادر والمراجع كما يعتمدها الأستاذ، أي أنه يقوم بعملية الاستقصاء في تحرّيه للمادة المعرفية. ويعطي عملية التوثيق نصيبها من الاهتمام، فيجتنب النقل بواسطة، والسطو على أعمال الآخرين. ومن ثم يُعبّر عن رأيه بصراحة، ولا يقبَل الأشياء إلا بدليل؛ لأنه في هذا المستوى يمتلك الحرية في التفكير وفي الاختيار وفي العمل والانتقاد.
2- العدل: أي التجرد والموضوعية، فهو لا يتكلم بتحيّز؛ بل إنه يدور مع الدليل وجودا وعدما. فالباحث يتعيّن أن يكون مجردا عن هواه الذاتي وعن تمثلاته الانطباعية إلى أبعد ما يمكن. ولا بد له من امتلاك القدرة على التخلي عن قناعاته التي يظهر الدليل على أنها غير علمية، وعليه اتباع القاعدة الذهبية التي كان علماؤنا يَحتكمون إليها وهي: " إن كُنتَ ناقلاً فالصحة أو مُدّعياً فالدليل".
3- الأدب: فلا يتكلم بوقاحة، فهو ينقد بالدليل والبرهان مع الأدب والتقدير، ودون تقديس للأشخاص أو الأقوال، فينبغي أن يكون تفكيره حرا من غير تكبّر أو عُجب. نعم الجرأة محبّذة في الطالب الباحث، لكن دون تطاوُلٍ أو سوء أدب مع العلماء، وفي الوقت نفسه دون تقديس لا يبقى معه أثر لشخصية الباحث، فتكون عنده الثقة في النفس دون تفريط أو إفراط.
إضافة إلى هذه المواصفات الثلاث، لابد كذلك للطالب الباحث، أن يتميز بجملة من الخصائص التي تميزه عن الطالب والتلميذ ومن أهمها:
- المبادرة: أن يكون مبادراً، بمعنى أن لديْه نوع من الاستباقية في تعلمه، وهو يبادر دوما إلى القراءة وإنجاز مهام قبل أن يُطلب منه القيام بذلك، وكذا تجربة أشياء جديدة من تلقاء نفسه، فهو لديه فضول طبيعي وتعطش دائم للتعلم.
- البصيرة: لديه قدرة على فهم ما هو أبعد من المعلومات المقدمة، فهو قادر على تخمين الأشياء، وتمييزِ خميرها من عفينها، وقياس المعنى المقصود أيضا.
- الانضباط الذاتي: فهو قادر على إدارة وقته بكفاءة، ويُدرك أن الأمور يجب القيام بها كلٌّ في وقته وحِينه، وقادر على الوفاء بالمواعيد النهائية في جميع الحالات.
- الشك في الأحكام المعروفة: وذلك بإعادة النظر في الأحكام الشائعة والمعارف الانطباعية الناتجة عن تمثلات راسخة، والانتقال إلى الأحكام والحقائق العلمية التي تُبنى على الحجة والدليل، واعتماد المنهج العلمي القويم.
- الهمة والصبر وطول النفس: أي الرغبة الداخلية النابعة من ذات الباحث، والتي ينتُج عنها حب العلم والتعلم.
4: تــركيـــب
يمكن إجمالُ ما تم تفصيله من فرقٍ بين المصطلحات الثلاثة، في خلاصة تركيبية على الشكل الآتي:
التلميذ: فرد يحتاج في تعلمه دائما إلى من يُكسبه من الخارج ← نقل وبناء المعرفة ← والحديث هنا عن الوظيفة العلمية.
الطالب: قادرعلى التدريب والتمرن على استثمار المعرفة المكتسبة في حاجاته الذاتية والاجتماعية ← يعتمد على نفسه أكثر← والحديث هنا عن الوظيفة العملية.
الطالب الباحث: فرد انتقل إلى مَنطق التعلم الذاتي أو تعلم التعلم ← الانتقال من التركيز على المعرفة إلى التركيز على المنهج الموصل إلى تلك المعرفة ← الحديث عن الوظيفة المنهجية ← الوصول بالطالب أخيراً إلى إنتاج المعرفة.
بناء على ما سبق، يتعيّن على المؤسسات التعليمية أن تنتهض بالوظائف الثلاث المذكورة، بشكل متدرّج ولولبي؛ وصولاً إلى تخريج طلبةٍ باحِثِين حقيقِيّين، قادِرِين على تشغيل جميع المَلكات المُكتسبة خلال رحلة الطّلَب العلمي عبر جميع الأسلاك، وخاصة مهارات التفكير العليا؛ لكي يُصبح الطالب الباحث أخيراً، مُفكِّر المستقبل أو المثقّف العضوي بتعبير أنطونيو غرامشي، والشّمولي بتعبير ميشال فوكو، والأصيل بتعبير علي شريعتي، والثوري بتعبير محمد عابد الجابري؛ لذلك لا بد من إدراكٍ واعٍ لمفهوم الطالب الباحث، الذي يكون ثمرةً لمُخرجات جامعاتنا، وأن يكون لدينا تصورٌ واضحق ومتّفق عليه عن حقيقة هذا المفهوم، والشروط العلمية والمهارية والأخلاقية اللازم توافرها في الطالب حتى نصِفه بالباحث؛ من أجل النهوض الحقيقي الجادّ والمسؤول بالبحث العلمي.
(1) سنن أبي داود"؛ لأبي داود سليمان السجستاني، باب الحث على طلب العلم، رقم الحديث (3643)، دار الكتاب العربي، بيروت ص: (3 / 354).
(2) أخرجه الطبراني ( 54/8 ، رقم 7347 ، قال الهيثمي: رجاله رجال الصحيح ).
صاحب المقال: المصطفى فرحان
أستاذ التعليم الابتدائي الدرجة الأولى بمديرية تازة
أستاذ باحث في سلك الدكتوراه بمركز دراسات الدكتوراه سايس فاس بالمختبر العلمي والبيداغوجي
باحث في مناهج تدريس العلوم
البريد الالكتروني: farhanemustapha9@gmail.com