الصديق الصادقي العماري باحث في علم الاجتماع
إن الحديث والخوض في التراث الثقافيللفرجات الفيلالية يرتبط باستحضار «تافيلالت»العريقة بوصفها فضاء ثقافيا رحبا له امتداداته التاريخية والجغرافية الضاربة في عمق التخوم الجنوبية الشرقية للمغرب. فالفرجات الفيلالية، مثلها مثل الفرجات الإنسانية بشكل عام، تتخذ أشكالا وصيغامتنوعة، وتتمظهر في شكل طقوس وشعائر أو احتفالات أو أعياد، كما يمتزج فيها الرقص بالغناء والإنشاد، وتعتمد اللغات والوسائل التعبيرية بما فيها الكلمة سواء كانت حكيا أو شعرا أو زجلا، إضافة إلى الإيقاع والجسد.
فالتراث الفيلالي يزخر بالعديد من الأشكال و المظاهر الفرجوية الشعبية، إذ أن لكل منطقة من تافيلالت لها شكلها الذي يميزها، حيث نجد أن هناك تشابه و تقاطع واختلاف في بعض المناطق. والمتمعن في حقيقة فنون الفرجة الشعبية بتافيلالت يجدها تخضع لإعداد و تنظيم وتسيير وتنسيق محكم وفق قواعد وقوانين مضبوطة متفق عليها من قبل الفرق و الجماعات التي تقدمها، من حيث النص المرتجل وطريقة العرض و نوع اللباس والتقنيات والوسائل، وكذلك الزمان والمكان.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفنون الفرجوية تحمل في طياتها التسلية و المرح، و الجد والهزل والخرافة أحيانا، و أحيانا أخرى تثير الاندهاش والاستغراب، غير أننا نجد أن هذا الفن في مجمله بمنطقة تافيلالت يعرف التهميش والقدح أحيانا في ثقافة الحس المشترك عند البعض،مما يفتح المجال في هذه المناسبة العظيمة للدعوة إلى ضرورة البحث والدراسة في خبايا هذا الفن العريق لاختراقه من قبل الباحثين والدارسين المتخصصين في الأدب و التراث وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها من التخصصات، من أجل خلخلته وتصفيته وتحديد منطلقاته ورسم معالمه الجديدة بما يعود بالنفع على العنصر البشري الفيلالي وكذا الحفاظ على الموروث الثقافي بما يضمن استدامته.
مما يجعلنا أمام التساؤل حول بعض أنواع و أشكال ومظاهر الفنون الفرجوية الفيلالية؟ وكيفية تصنيف المتن الفرجوي الفيلالي؟ وما المبادئ التي يمكن اعتمادها في نمذجة الفرجات الفيلالية، لا سيما أنها تتقاطع مع الصيغ العامة للفرجات الإنسانية من حيث الوسائل والأشكال التعبيرية، وإن كانت تتميز عنها من حيث طرائق تمثلها لهذه الوسائل ولأبعادها الاجتماعية والأنثروبولوجية؟
قبل التعريف بالفرجة لابد أن نفرق بين مصطلحين يبدو أن أحدهما يعتبر بديلاً عن الآخر عند الكثير من الباحثين وهما “فن الأداء” و”الفرجة” وأيهما أشمل من الآخر؟
إن كلمة “أداء” متعددة المظاهر ومتشعبة المعاني إلى درجة يصعب حصر كل مجالاتها الدلالية وأوجه استعمالاتها، وعليه يغدو استعمالنا لكلمة “فرجة” كونه مرادف او ليس بديلا عن ″فن الأداء″ مع العلم أن الأداء يوحي بأحادية الإنجاز، كأن العرض الفني الفرجوي ينجز فقط من لدن مؤدين لصالح جمهور سلبي، فالفرجة بالنسبة لنا هي أشمل من الأداء لكونها قد تشمل الشعائر، والاحتفالات، والألعاب الرياضية، والإيماءات… وغيرها. وبالتالي اكتسبت كلمة فرجة المعنى الذي تشير إليه كلمة spectacle، والمتفرج spectateur.
كما تتضمن في خلفيتها، حسب الدكتور خالد أمين، أن الفرجة تحمل عنى إحداث تأثير في النفس والآخرين، و انكشاف الغم ومشاهدة ما يتسلىبه.[1] و يرى الدكتور حسن يوسفي، في كتابه ″المسرح و الفرجات″ أن ″الفرجوي هو ما يثير الحواس، وما يثير اهتمام ذاك الذي يشاهد أو يسمع بسبب خاصية لا يومية…… أو مظهر خارق غير منتظر″. وقد توصل المؤلف إلى أن الفرجوي له خصائص تلازمه، وذكر من بينها: «الفرجوي يتميز ببعده التاريخي، فمحتوياته وأشكاله تتغير بتغير العصور، ذلك لأن له علاقة بالمعيش، بالسياق السياسي والاجتماعي، بتاريخ الذوق والأيديولوجيات.. والفرجوي غالبا ما يكون مرئيا، لكنه قد يكون مسموعا أيضا،……..» (ص14-15).[2]
و من المعلوم أن التراث الفيلالي غني بأنواعه و أشكاله مما يجعلنا عاجزا في هذه الوقة عن حصره في مجمله، لكن يمكن تصنيف الفرجات الفيلالية إلى ثلاثة أصناف كبرى هي: فرجات طقوسية، وفرجات جسدية، وفرجات إيقاعية. و يقصد بالفرجات الطقوسية تلك التي تندرج في صلب الحدث الديني أو الاجتماعي المرتبط بالحياة اليومية أو بالفترات الزمنية الحاسمة في معيش الإنسان الفيلالي، وهي تقسم إلى فرجات ذات طابع روحي أو ديني، وتندرج ضمنها طقوس الزوايا، وهناك فرجات تتخذ طابعا سوسيولوجيا وتندرج في صلب بعض الأشغال الموسمية للإنسان الفيلالي في علاقته بأرضه وبمعيشته.
أما بخصوص طقوس الزواج والأعراس تتخذ في الغالب شكل احتفال منظم تتخلله لحظات فرجوية مسننة ومنظمة يتم تنفيذها عبر مراحل، كما أن الأعراس غالبا ما تكون مناسبة لانتعاش الفرجات الجسدية، لا سيما من خلال طبيعة الرقصات التي يتم تأديتها بشكل فردي أو جماعي، حيث تعرف كل منطقة من مناطق تافيلالت بفرجة جسدية خاصة لها سننها الخاصة وترتيباتها المميزة. ومن بين الفرجات التي تصنعها الكلمة بتافيلالت سواء كانت شعرا أو زجلا أو حكيا، يندرج ضمن هذا الإطار ما يعرف بالرباعيات، والتي هي عبارة عن أزجال تؤدى بكيفية فردية وجماعية في نفس الآن، وتعرف بها على وجه الخصوص منطقة «الجرف». وفي صلب هذه الأزجال يستشف السامع لها حكايات وفرجات ذهنية تعكس روح الفضاء الصحراوي الذي تنتمي إليه، بعاداته وتقاليده وطبائع أهله.
كذلكفن «البلدي» الذي يعد الفن الأكثر حضورا في فرجات الفيلاليين، خاصة خلال الأعراس والمناسبات العائلية، وهو مزيج من الزجل المحلي والطرب المعتمد على الإيقاع البطيء تارة والسريع تارة أخرى، و منأشتهر رواده المرحومان ″مولاي علي الفيلالي نواحي″ الريصاني، و″محمد باعوت″بمنطقة بمدغرة، وكذلك الجيل الذي تعلم بعدهما مثل ″الجبوري محمد″ المعروف ب ‘’ميح’’بمنطقة الزريقات نواحي أوفوس، الذين أضفوا طابعا فرجويا منقطع النظير على هذا الفن، و يتجلى ذلك في كونهم فنانون جمعوا بين الرقص والغناء والضرب على بعض الآلات الإيقاعية، ناهيك من كونهم أدخلوا إلى (البلدي) بعدا جديدا تمثل في ثقافة الجسد بكل ما تحمله هذه الثقافة من دلالات مختلفة على صعيد التزيين والزي، مما يحول العديد من هذه فرجات إلى فرجات بصرية وسمعية في نفس الآن.
دون أن ننسى الفرجة الأمازيغية المتجسدة في رقصة ″أحيدوس″التيتنعشالفرجات الجسدية و الطقوسية والإيقاعية في نفس الآن، تحمل في ثناياها التسلية والمرح واللعب والكلام الموزون المعبرعبرما يسمى ب ″إزلان″. كما يجسد صور جمالية عريقة من خلال أشكاله التعبيرية عن الأحاسيس و الأفكار و المشاعر باستعمالالحركاتو اللباس الأمازيغي الموحد للرجال وللنساء بتوظيف ألة الدف. وتختلف رقصة أحيدوس من حيث التنظيم واللباس و نوع إزلان بين قبائل ″أيت عطا″ و″أيت مرغاد″ و″إقبلين″. هذا النوع الذي يعرف حضورا كبيرا في القرى والمداشر الواقعة على ضفتي وادي زيز و غريس.
أما فيما يخص ″الفرجة الكناوية″ التي تتمركز بمنطقة مرزوكة الواقعة في صحراء تافيلالت على وجه الخصوص، وبمنطقة زاوية أوفوس ومناطق أخرى، والتي ارتبطت بنوع من القبائل الذين توافدوا على منطقة سجلماسة التي بدورها لعبت دورا طلائعيا كحلقة وصل ومنطقة لعبور القوافل التجارية بين إفريقيا جنوب الصحراء، والمغرب، و الغرب، والشرق الإسلامي و أيضا أوروبا. هاته التحركات التي كانت تحمل طابعا تجاريا حملت معها تلاقح الثقافات، وبالتالي قبائل كناوة، الذين كانوا في الأصل عبيد، الذين مروا من منطقة سجلماسة استقروا بمنطقة ″الخملية″ بنواحي مرزوكة بعد تحررهم.
فإن إيقاعاتهم الموسيقية ومضامين الأهازيج والأغاني التي يرددونها، هي عبارة عن مجموعة من صرخات استغاثة، كانت غالبا ما تتمحور حول التصوف ومدح الرسول صلى الله عليه والسلام مثل ″أيا رسول الله أيا حبيب الله″، وأيضا الحنين إلى الوطن الأم وهو السودان الغربي بشكل عام، ثم الاحتفال بذكرى الجد الأكبر ″بلال بن رباح″و أخرى ترتبط بأسماء بعض الأشخاص مثل ″ميمونة″ و ″فاطمة″ومختلف المواضيع التي تعبر عن الحنين إلى الأصل.
ومن أمثال الرواد الأوائل لفن كناوة بمنطقة ″الخملية″ نذكر المرحومين :″زايد اوبركة و ″حدى وزايد″ الذين أصلا لهذا الفن بمنطقة تافيلالت بواسطة أشكال و أنواع تعبيرية ممزوجة بالثقافة الفيلالية بما فيها الأمازيغية، من خلال تنظيم حفلة سنوية تسمى ″الصدقت″ في فصل الصيف عند نهاية كل موسم حصاد لمدة ثلاثة أيام.
تبدأ الاستعدادات لهذه الحفلة بالطواف والتجوال على السكان من خلال أشكال تعبيرية بالأغاني والموسيقى باعتماد الرقص والأهازيج بلباس موحد (جلباب أبيض، رزة بيضاء، الخنجر، البلغة الكناوية والحزام الجلدي..)، مستعملين في ذلك وسائل و أدوات مثل الطبل والقراقبأو القرابش و القيثارة الخشبية …من أجل الدعاء للناس بالبركة والخير الكثير، حيث يقدم السكان للفرقة قدر من المال أو الزيت أو السكر أو الطحين….حسب الاستطاعة، بعد ذلك تعود الفرقة إلى إقامة الاحتفال الذي يجب أن يصادف أيام الخميس والجمعة والسبت، ولكل يوم طقوس احتفالية خاصة.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن هناك أشكال ومظاهر فرجوية فيلالية بمناطق أخرى، ونذكر على سبيل المثال ″الفقرة الصادقية″ التي تنتسب إلى زاوية ″سيدي أحمد بن عبد الصادق″ بالزاوية القديمة التابعة لجماعة الرتب، هذه الزاوية التي تعد أحد المعالم الدينية الثقافية بالمنطقة من خلال أشكالها الاحتفالية الدينية الصرفة عن طريق ما يسمى ب ″الجدبة″ تتخللها الأذكار و الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ″اللهم صلي عليك يا النبي″. وهذه الجدبة إما تكون فردية أو جماعية حسب نوع الأذكار وطريقة تأديتها.
الزاوية الصادقية تعرفبطقس سنوي يقام في زاوية ″سيدي علي اكومي″ وهي الزاوية التي عاش فيها ″سيدي أحمد بن عبد الصادق″ من بين مريدي شيخ الزاوية ″سيدي علي أكومي″ مدة محدودة قبل قدومه للزاوية القديمة. هذا الطقس يعد ندرا قطعه سكان ″الزاوية القديمة″ على أنفسهم منذ أن قدم إليهم ″سيدي أحمد بن عبد الصادق″ ليستقر عندهم، وهو أن يقدموا كل سنة لشيخه ″سيدي علي اكومي ″،في طقوس و أعراف وتقاليد احتفالية، قدرا من محصول الزرع كل سنة، على أن تذهب الفرقة الصادقية من ″قصر الزاوية القديمة″ إلى ″قصر سيدي علي أكومي″ مشيا على الأقدام بالأهازيج و الأذكار ومدح النبي صلى الله عليه وسلم و أشكال تعبيرية ب″الجدبة″، ليقدموا الندر لسكان ″سيدي علي اكومي″ و يقضون يوما أو نصف يوم بأشكالهم التعبيرية التي تجسد لحدث مهم يلتقي فيه الماضي بالحاضر، حيث يستقبلهم سكان ″سيدي علي أكومي″ بحفاوة عالية وكرم كبير، ولازال هذا الاحتفال موجودا إلى الأن.
إن فضاء تافيلالت غني بأشكاله الفرجوية الشعبية التي تجسد لهويته و أصالته وتجدره في عمق التاريخ، وهناك أشكال أخرى كثيرة تتوزع على جميع مناطق تافيلالت ربما نوردها في ورقات أخرى لاحقة بنوع من التفصيل. مما يدفعنا كمهتمين بهذا التراث، سواء من الناحية السوسيولوجية أو الأنثروبولوجية، إلى التأكيد على ضرورة دراسته وتحديد خلفياته و منطلقاته لخلخلته وتصفيته من أجل توجيهه وتقنينه….و هذه المهمة الجسيمة مطروحة على عاتق الباحثين والدارسين من أجل إدخال هذا التراث في حقول البحث العلمي من أجل الحفاظ عليه وضمان استدامته.
[1]خالد أمين، كتاب: رهانات دراسات الفرجة بين الشرق والغرب، مداخلة في كتاب السرديات وفنون الأداء، وقائع الملتقى العالمي : 18 و 19 و 20 أكتوبر، المهرجان الوطني للمسرح، الجزائر، 2010، ص 130.
[2]حسن يوسفي، المسرح والفرجات، المركز الدولي لدراسات الفرجة ، ص 54، 2012
إن الحديث والخوض في التراث الثقافيللفرجات الفيلالية يرتبط باستحضار «تافيلالت»العريقة بوصفها فضاء ثقافيا رحبا له امتداداته التاريخية والجغرافية الضاربة في عمق التخوم الجنوبية الشرقية للمغرب. فالفرجات الفيلالية، مثلها مثل الفرجات الإنسانية بشكل عام، تتخذ أشكالا وصيغامتنوعة، وتتمظهر في شكل طقوس وشعائر أو احتفالات أو أعياد، كما يمتزج فيها الرقص بالغناء والإنشاد، وتعتمد اللغات والوسائل التعبيرية بما فيها الكلمة سواء كانت حكيا أو شعرا أو زجلا، إضافة إلى الإيقاع والجسد.
فالتراث الفيلالي يزخر بالعديد من الأشكال و المظاهر الفرجوية الشعبية، إذ أن لكل منطقة من تافيلالت لها شكلها الذي يميزها، حيث نجد أن هناك تشابه و تقاطع واختلاف في بعض المناطق. والمتمعن في حقيقة فنون الفرجة الشعبية بتافيلالت يجدها تخضع لإعداد و تنظيم وتسيير وتنسيق محكم وفق قواعد وقوانين مضبوطة متفق عليها من قبل الفرق و الجماعات التي تقدمها، من حيث النص المرتجل وطريقة العرض و نوع اللباس والتقنيات والوسائل، وكذلك الزمان والمكان.
وتجدر الإشارة إلى أن هذه الفنون الفرجوية تحمل في طياتها التسلية و المرح، و الجد والهزل والخرافة أحيانا، و أحيانا أخرى تثير الاندهاش والاستغراب، غير أننا نجد أن هذا الفن في مجمله بمنطقة تافيلالت يعرف التهميش والقدح أحيانا في ثقافة الحس المشترك عند البعض،مما يفتح المجال في هذه المناسبة العظيمة للدعوة إلى ضرورة البحث والدراسة في خبايا هذا الفن العريق لاختراقه من قبل الباحثين والدارسين المتخصصين في الأدب و التراث وعلم الاجتماع والأنثروبولوجيا وغيرها من التخصصات، من أجل خلخلته وتصفيته وتحديد منطلقاته ورسم معالمه الجديدة بما يعود بالنفع على العنصر البشري الفيلالي وكذا الحفاظ على الموروث الثقافي بما يضمن استدامته.
مما يجعلنا أمام التساؤل حول بعض أنواع و أشكال ومظاهر الفنون الفرجوية الفيلالية؟ وكيفية تصنيف المتن الفرجوي الفيلالي؟ وما المبادئ التي يمكن اعتمادها في نمذجة الفرجات الفيلالية، لا سيما أنها تتقاطع مع الصيغ العامة للفرجات الإنسانية من حيث الوسائل والأشكال التعبيرية، وإن كانت تتميز عنها من حيث طرائق تمثلها لهذه الوسائل ولأبعادها الاجتماعية والأنثروبولوجية؟
قبل التعريف بالفرجة لابد أن نفرق بين مصطلحين يبدو أن أحدهما يعتبر بديلاً عن الآخر عند الكثير من الباحثين وهما “فن الأداء” و”الفرجة” وأيهما أشمل من الآخر؟
إن كلمة “أداء” متعددة المظاهر ومتشعبة المعاني إلى درجة يصعب حصر كل مجالاتها الدلالية وأوجه استعمالاتها، وعليه يغدو استعمالنا لكلمة “فرجة” كونه مرادف او ليس بديلا عن ″فن الأداء″ مع العلم أن الأداء يوحي بأحادية الإنجاز، كأن العرض الفني الفرجوي ينجز فقط من لدن مؤدين لصالح جمهور سلبي، فالفرجة بالنسبة لنا هي أشمل من الأداء لكونها قد تشمل الشعائر، والاحتفالات، والألعاب الرياضية، والإيماءات… وغيرها. وبالتالي اكتسبت كلمة فرجة المعنى الذي تشير إليه كلمة spectacle، والمتفرج spectateur.
كما تتضمن في خلفيتها، حسب الدكتور خالد أمين، أن الفرجة تحمل عنى إحداث تأثير في النفس والآخرين، و انكشاف الغم ومشاهدة ما يتسلىبه.[1] و يرى الدكتور حسن يوسفي، في كتابه ″المسرح و الفرجات″ أن ″الفرجوي هو ما يثير الحواس، وما يثير اهتمام ذاك الذي يشاهد أو يسمع بسبب خاصية لا يومية…… أو مظهر خارق غير منتظر″. وقد توصل المؤلف إلى أن الفرجوي له خصائص تلازمه، وذكر من بينها: «الفرجوي يتميز ببعده التاريخي، فمحتوياته وأشكاله تتغير بتغير العصور، ذلك لأن له علاقة بالمعيش، بالسياق السياسي والاجتماعي، بتاريخ الذوق والأيديولوجيات.. والفرجوي غالبا ما يكون مرئيا، لكنه قد يكون مسموعا أيضا،……..» (ص14-15).[2]
و من المعلوم أن التراث الفيلالي غني بأنواعه و أشكاله مما يجعلنا عاجزا في هذه الوقة عن حصره في مجمله، لكن يمكن تصنيف الفرجات الفيلالية إلى ثلاثة أصناف كبرى هي: فرجات طقوسية، وفرجات جسدية، وفرجات إيقاعية. و يقصد بالفرجات الطقوسية تلك التي تندرج في صلب الحدث الديني أو الاجتماعي المرتبط بالحياة اليومية أو بالفترات الزمنية الحاسمة في معيش الإنسان الفيلالي، وهي تقسم إلى فرجات ذات طابع روحي أو ديني، وتندرج ضمنها طقوس الزوايا، وهناك فرجات تتخذ طابعا سوسيولوجيا وتندرج في صلب بعض الأشغال الموسمية للإنسان الفيلالي في علاقته بأرضه وبمعيشته.
أما بخصوص طقوس الزواج والأعراس تتخذ في الغالب شكل احتفال منظم تتخلله لحظات فرجوية مسننة ومنظمة يتم تنفيذها عبر مراحل، كما أن الأعراس غالبا ما تكون مناسبة لانتعاش الفرجات الجسدية، لا سيما من خلال طبيعة الرقصات التي يتم تأديتها بشكل فردي أو جماعي، حيث تعرف كل منطقة من مناطق تافيلالت بفرجة جسدية خاصة لها سننها الخاصة وترتيباتها المميزة. ومن بين الفرجات التي تصنعها الكلمة بتافيلالت سواء كانت شعرا أو زجلا أو حكيا، يندرج ضمن هذا الإطار ما يعرف بالرباعيات، والتي هي عبارة عن أزجال تؤدى بكيفية فردية وجماعية في نفس الآن، وتعرف بها على وجه الخصوص منطقة «الجرف». وفي صلب هذه الأزجال يستشف السامع لها حكايات وفرجات ذهنية تعكس روح الفضاء الصحراوي الذي تنتمي إليه، بعاداته وتقاليده وطبائع أهله.
كذلكفن «البلدي» الذي يعد الفن الأكثر حضورا في فرجات الفيلاليين، خاصة خلال الأعراس والمناسبات العائلية، وهو مزيج من الزجل المحلي والطرب المعتمد على الإيقاع البطيء تارة والسريع تارة أخرى، و منأشتهر رواده المرحومان ″مولاي علي الفيلالي نواحي″ الريصاني، و″محمد باعوت″بمنطقة بمدغرة، وكذلك الجيل الذي تعلم بعدهما مثل ″الجبوري محمد″ المعروف ب ‘’ميح’’بمنطقة الزريقات نواحي أوفوس، الذين أضفوا طابعا فرجويا منقطع النظير على هذا الفن، و يتجلى ذلك في كونهم فنانون جمعوا بين الرقص والغناء والضرب على بعض الآلات الإيقاعية، ناهيك من كونهم أدخلوا إلى (البلدي) بعدا جديدا تمثل في ثقافة الجسد بكل ما تحمله هذه الثقافة من دلالات مختلفة على صعيد التزيين والزي، مما يحول العديد من هذه فرجات إلى فرجات بصرية وسمعية في نفس الآن.
دون أن ننسى الفرجة الأمازيغية المتجسدة في رقصة ″أحيدوس″التيتنعشالفرجات الجسدية و الطقوسية والإيقاعية في نفس الآن، تحمل في ثناياها التسلية والمرح واللعب والكلام الموزون المعبرعبرما يسمى ب ″إزلان″. كما يجسد صور جمالية عريقة من خلال أشكاله التعبيرية عن الأحاسيس و الأفكار و المشاعر باستعمالالحركاتو اللباس الأمازيغي الموحد للرجال وللنساء بتوظيف ألة الدف. وتختلف رقصة أحيدوس من حيث التنظيم واللباس و نوع إزلان بين قبائل ″أيت عطا″ و″أيت مرغاد″ و″إقبلين″. هذا النوع الذي يعرف حضورا كبيرا في القرى والمداشر الواقعة على ضفتي وادي زيز و غريس.
أما فيما يخص ″الفرجة الكناوية″ التي تتمركز بمنطقة مرزوكة الواقعة في صحراء تافيلالت على وجه الخصوص، وبمنطقة زاوية أوفوس ومناطق أخرى، والتي ارتبطت بنوع من القبائل الذين توافدوا على منطقة سجلماسة التي بدورها لعبت دورا طلائعيا كحلقة وصل ومنطقة لعبور القوافل التجارية بين إفريقيا جنوب الصحراء، والمغرب، و الغرب، والشرق الإسلامي و أيضا أوروبا. هاته التحركات التي كانت تحمل طابعا تجاريا حملت معها تلاقح الثقافات، وبالتالي قبائل كناوة، الذين كانوا في الأصل عبيد، الذين مروا من منطقة سجلماسة استقروا بمنطقة ″الخملية″ بنواحي مرزوكة بعد تحررهم.
فإن إيقاعاتهم الموسيقية ومضامين الأهازيج والأغاني التي يرددونها، هي عبارة عن مجموعة من صرخات استغاثة، كانت غالبا ما تتمحور حول التصوف ومدح الرسول صلى الله عليه والسلام مثل ″أيا رسول الله أيا حبيب الله″، وأيضا الحنين إلى الوطن الأم وهو السودان الغربي بشكل عام، ثم الاحتفال بذكرى الجد الأكبر ″بلال بن رباح″و أخرى ترتبط بأسماء بعض الأشخاص مثل ″ميمونة″ و ″فاطمة″ومختلف المواضيع التي تعبر عن الحنين إلى الأصل.
ومن أمثال الرواد الأوائل لفن كناوة بمنطقة ″الخملية″ نذكر المرحومين :″زايد اوبركة و ″حدى وزايد″ الذين أصلا لهذا الفن بمنطقة تافيلالت بواسطة أشكال و أنواع تعبيرية ممزوجة بالثقافة الفيلالية بما فيها الأمازيغية، من خلال تنظيم حفلة سنوية تسمى ″الصدقت″ في فصل الصيف عند نهاية كل موسم حصاد لمدة ثلاثة أيام.
تبدأ الاستعدادات لهذه الحفلة بالطواف والتجوال على السكان من خلال أشكال تعبيرية بالأغاني والموسيقى باعتماد الرقص والأهازيج بلباس موحد (جلباب أبيض، رزة بيضاء، الخنجر، البلغة الكناوية والحزام الجلدي..)، مستعملين في ذلك وسائل و أدوات مثل الطبل والقراقبأو القرابش و القيثارة الخشبية …من أجل الدعاء للناس بالبركة والخير الكثير، حيث يقدم السكان للفرقة قدر من المال أو الزيت أو السكر أو الطحين….حسب الاستطاعة، بعد ذلك تعود الفرقة إلى إقامة الاحتفال الذي يجب أن يصادف أيام الخميس والجمعة والسبت، ولكل يوم طقوس احتفالية خاصة.
وتجدر الإشارة كذلك إلى أن هناك أشكال ومظاهر فرجوية فيلالية بمناطق أخرى، ونذكر على سبيل المثال ″الفقرة الصادقية″ التي تنتسب إلى زاوية ″سيدي أحمد بن عبد الصادق″ بالزاوية القديمة التابعة لجماعة الرتب، هذه الزاوية التي تعد أحد المعالم الدينية الثقافية بالمنطقة من خلال أشكالها الاحتفالية الدينية الصرفة عن طريق ما يسمى ب ″الجدبة″ تتخللها الأذكار و الصلاة على الرسول صلى الله عليه وسلم مثل ″اللهم صلي عليك يا النبي″. وهذه الجدبة إما تكون فردية أو جماعية حسب نوع الأذكار وطريقة تأديتها.
الزاوية الصادقية تعرفبطقس سنوي يقام في زاوية ″سيدي علي اكومي″ وهي الزاوية التي عاش فيها ″سيدي أحمد بن عبد الصادق″ من بين مريدي شيخ الزاوية ″سيدي علي أكومي″ مدة محدودة قبل قدومه للزاوية القديمة. هذا الطقس يعد ندرا قطعه سكان ″الزاوية القديمة″ على أنفسهم منذ أن قدم إليهم ″سيدي أحمد بن عبد الصادق″ ليستقر عندهم، وهو أن يقدموا كل سنة لشيخه ″سيدي علي اكومي ″،في طقوس و أعراف وتقاليد احتفالية، قدرا من محصول الزرع كل سنة، على أن تذهب الفرقة الصادقية من ″قصر الزاوية القديمة″ إلى ″قصر سيدي علي أكومي″ مشيا على الأقدام بالأهازيج و الأذكار ومدح النبي صلى الله عليه وسلم و أشكال تعبيرية ب″الجدبة″، ليقدموا الندر لسكان ″سيدي علي اكومي″ و يقضون يوما أو نصف يوم بأشكالهم التعبيرية التي تجسد لحدث مهم يلتقي فيه الماضي بالحاضر، حيث يستقبلهم سكان ″سيدي علي أكومي″ بحفاوة عالية وكرم كبير، ولازال هذا الاحتفال موجودا إلى الأن.
إن فضاء تافيلالت غني بأشكاله الفرجوية الشعبية التي تجسد لهويته و أصالته وتجدره في عمق التاريخ، وهناك أشكال أخرى كثيرة تتوزع على جميع مناطق تافيلالت ربما نوردها في ورقات أخرى لاحقة بنوع من التفصيل. مما يدفعنا كمهتمين بهذا التراث، سواء من الناحية السوسيولوجية أو الأنثروبولوجية، إلى التأكيد على ضرورة دراسته وتحديد خلفياته و منطلقاته لخلخلته وتصفيته من أجل توجيهه وتقنينه….و هذه المهمة الجسيمة مطروحة على عاتق الباحثين والدارسين من أجل إدخال هذا التراث في حقول البحث العلمي من أجل الحفاظ عليه وضمان استدامته.
[1]خالد أمين، كتاب: رهانات دراسات الفرجة بين الشرق والغرب، مداخلة في كتاب السرديات وفنون الأداء، وقائع الملتقى العالمي : 18 و 19 و 20 أكتوبر، المهرجان الوطني للمسرح، الجزائر، 2010، ص 130.
[2]حسن يوسفي، المسرح والفرجات، المركز الدولي لدراسات الفرجة ، ص 54، 2012