بقلم : صالح الخزاعي أستاذ التعليم الابتدائي
منذ انضمامي إلى هيئة التدريس بوزارة التربية الوطنية، قبل 11 سنة، وتحديدا بعد حصولي على تعويض أول ملف طبي وضعته لدى التعاضدية العامة للتربية الوطنية، أثارت استغرابي هزالة التعويض الذي تكرّمت به المؤسسة على موظف، تُقتطعُ من أجرته آلاف الدراهم، دون أن تكون له القدرة على رفض أو قبول الانخراط في هذا النظام التعاضدي.
وباستثناء المصابين بأمراض مزمنة، لاحظت إجماعا غريبا، من زملائي الأساتذة وزميلاتي الأستاذات، على أن التعويضات التي تصرفها التعاضدية العامة للتربية الوطنية، مقارنة بأنظمة أخرى، لا تعدو أن تكون ذرّا للرماد في العيون، أو صدقة تجود بها على موظفين لا حول لهم أمام الأمراض، ولا قوة لديهم على تحمّلها أو تحمّل تكاليفها، ولا قدرة لهم على مجابهتها داخل المصحات الخاصة، سواء فوق التراب الوطني أو بعيدا عنه.
ظننت في بداية المشوار المهني أن النظام التعاضدي مسطّر في الدستور المغربي، أو في قانون المسطرة الجنائية، أو المدنية في أحسن الأحوال، ومناقشته أو انتقاده قد يجرّ على صاحبه ما لا يتمناه كل موظف يحرص على مصدر رزقه، فكنت أنتقد بتحفّظ، وأناقش بحذر، وأعاتب بأدب، وألوم بهدوء، وأنتقد بليونة، وأستنكر بسلام وأمان وابتسامة صفراء.
مرت السنين وتعايشت مع التعويضات الهزيلة، ووضعت جمجمتي بين رؤوس الخلائق، وناديت: أيا قاطع الأعناق والرواتب، بين يديك وضعنا رواتبنا، وأمام مقصّك بسطنا حساباتنا، فاقطع واقتطع وقطّع، ثم اقض ما أنت قاض، ما دام أفراد عائلتي التعليمية راضين بالتعويضات، مرضيين بالسكوت عنها، آمنين بين المرافق الصحية، مطمئنين للملفات الطبية، فرحين بتضامنهم، مستبشرين بخلوّهم من الأمراض المزمنة.
فجأة، ولأول مرة في حياتي المهنية، ومن حيث لا أدري ولا أحتسب، بلغ إلى علمي وصول موعد "انتخاب مناديب التعاضدية العامة للتربية الوطنية للجمع العام الوطني"، بعدما قضيت سنوات بين وديان وطرقات سلسلة جبال الريف، لا يصلني من الأخبار حينها سوى زيارة مدير المؤسسة والمفتش، أو إعلان نقابة معينة عن إضراب ما، أو قدوم بائعي الموسوعات العلمية بأثمنة فلكية.
بعدما سألت واستفسرت وبحثت عن تفاصيل هذا النوع من الانتخابات، اكتشفت أن المعارف التي بنيتُ حول التعاضدية مجرد سراب فوق سحاب، وأن ثمة أفراد من عائلتي التعليمية يُسمح لهم، بناء على انتخابات معيّنة، بتمثيل إخوانهم والدفاع عنهم، ومساعدتهم والذود عنهم، لدى المصالح الإقليمية والجهوية والمركزية للتعاضدية العامة للتربية الوطنية، وقد جاءت الفرصة للمشاركة في انتخاب من يمثلني في تلك المؤسسة.
دون الخوض في مرحلة تعبئة المنخرطين من أجل التصويت على فلان أو علّان، والتي استمرت إلى الثواني الأخيرة من عمر المباراة، انتقلتُ مباشرة إلى مدينة الجديدة، يوم الأربعاء، من أجل الإدلاء بصوتي رفقة باقي أفراد العائلة التعليمية، لأجد نفسي، مرة أخرى، أمام واقع يراه الكل عجيبا غريبا، ولا أحد من "الكل" يحرّك ساكنا، إلا من همهمات بئيسة، وهمسات ضعيفة بين هذا المنخرط وذاك الراغب في التصويت.
طابور من رجال ونساء التعليم، مُقدّمته في الطابق الثاني من عمارة طويلة، ونهايته على الرصيف قرب السيارات المركونة بالشارع العام، فيما تحوّل درج البناية إلى كراسي إسمنتية باردة، لتمكين بناة الأجيال من أخذ قسط من الراحة الممزوجة بالإذلال والاحتقار والاستصغار، لا لشيء سوى أنهم رغبوا في انتخاب ممثليهم لدى مؤسسة تمصّ الدم من رواتبهم، وترميهم بدريهمات معدودات كلما أصيبوا بوعكة صحية.
فئة من الراغبين في التصويت استعانت بالصبر والصلاة على النبي، طيلة ساعتين، للوصول إلى المعزل والإدلاء بأصواتها، وفئة أخرى حوْلقت واسترجعت وعادت من حيث أتت، تجرّ أذيال الخيبة وراءها، وفئة أخرى تجشمت عناء السفر من مكتب التصويت بمدينة الجديدة إلى غاية أزمور، من أجل المشاركة في الانتخابات داخل حجرة واحدة بمؤسسة تعليمية، فيما اختارت فئة "الراسخين في علم التعاضديات" عدم إيلاء الموضوع أي أهمية، بعدما شاركوا في محطات سابقة لا تختلف قيد أنملة عن محطة ما بعد دستور 2011.
عشرات المنخرطين صُدموا بعدم ورود أسمائهم في لوائح المصوتين، رغم مشاركتهم في المحطات الانتخابية السابقة، فيما يستغرب المرء، داخل المعزل، بكون لوائح المترشحين غير مختومة بطابع التعاضدية العامة للتربية الوطنية، ما يعني أنه بإمكان المصوّت الاستعانة بورقتين أو ثلاث أخرى للرفع من نسبة التصويت، وترجيح كفة مرشح على كفة الآخر، فيما يغيب داخل القاعة ممثلون عن المرشحين، مثلما تشهده جميع أنواع الانتخابات الاعتيادية، لتتبع السير العادي للعملية.
المشرفون على الانتخابات بكل من الجديدة وأزمور يتوفرون على نفس لوائح المصوتين، وفي غياب أي إجراء يمكن الكشف من خلاله عن المتحايلين الراغبين في التصويت مرتين، فُتح نقاش طويل عريض بين متتبعي العملية، حول مدى إمكانية التصويت بالمكتبين، وكيفية معالجة المشكل إذا ما تبيّن، بعد انتهاء العملية، أن فلانا صوّت مرّتين، حيث لا يمكن حينها إلغاء صوته، أو معاقبته في غياب دليل مادي لاتهامه بارتكاب تلك المخالفة.
بعد معاينتي لكل تلك الاختلالات التنظيمية، والظروف التي مرّت فيها العملية الانتخابية، سواء من حيث الاكتظاظ، وتخصيص مكتب تصويت واحد لآلاف الأساتذة بمدينة الجديدة، وترك رجال ونساء التعليم يتوسّدون درج بناية من أجل التصويت، وغياب ممثلين عن المرشحين داخل المكتب، وإمكانية التصويت مرتين، مع اكتفاء المرشحين والمصوتين بالاستنكار الوديع، قرّرت بدوري أن أنضم إلى فئة "الراسخين في علم التعاضديات"، وأن لا أهتم مجددا بهذا النوع من الانتخابات، سواء بالترشح أو التصويت أو المتابعة، وأن أضع رأسي مرة أخرى بين الجماجم، وأنادي بأعلى صوتي على "قاطع الرّؤوس الرواتب"، وأن أحمد الله تعالى على نعمة التعويض عن الملفات الطبية رغم هزالته، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
عن موقع هسبريس بتاريخ الخميس 12 ماي 2016 - 12:45
منذ انضمامي إلى هيئة التدريس بوزارة التربية الوطنية، قبل 11 سنة، وتحديدا بعد حصولي على تعويض أول ملف طبي وضعته لدى التعاضدية العامة للتربية الوطنية، أثارت استغرابي هزالة التعويض الذي تكرّمت به المؤسسة على موظف، تُقتطعُ من أجرته آلاف الدراهم، دون أن تكون له القدرة على رفض أو قبول الانخراط في هذا النظام التعاضدي.
وباستثناء المصابين بأمراض مزمنة، لاحظت إجماعا غريبا، من زملائي الأساتذة وزميلاتي الأستاذات، على أن التعويضات التي تصرفها التعاضدية العامة للتربية الوطنية، مقارنة بأنظمة أخرى، لا تعدو أن تكون ذرّا للرماد في العيون، أو صدقة تجود بها على موظفين لا حول لهم أمام الأمراض، ولا قوة لديهم على تحمّلها أو تحمّل تكاليفها، ولا قدرة لهم على مجابهتها داخل المصحات الخاصة، سواء فوق التراب الوطني أو بعيدا عنه.
ظننت في بداية المشوار المهني أن النظام التعاضدي مسطّر في الدستور المغربي، أو في قانون المسطرة الجنائية، أو المدنية في أحسن الأحوال، ومناقشته أو انتقاده قد يجرّ على صاحبه ما لا يتمناه كل موظف يحرص على مصدر رزقه، فكنت أنتقد بتحفّظ، وأناقش بحذر، وأعاتب بأدب، وألوم بهدوء، وأنتقد بليونة، وأستنكر بسلام وأمان وابتسامة صفراء.
مرت السنين وتعايشت مع التعويضات الهزيلة، ووضعت جمجمتي بين رؤوس الخلائق، وناديت: أيا قاطع الأعناق والرواتب، بين يديك وضعنا رواتبنا، وأمام مقصّك بسطنا حساباتنا، فاقطع واقتطع وقطّع، ثم اقض ما أنت قاض، ما دام أفراد عائلتي التعليمية راضين بالتعويضات، مرضيين بالسكوت عنها، آمنين بين المرافق الصحية، مطمئنين للملفات الطبية، فرحين بتضامنهم، مستبشرين بخلوّهم من الأمراض المزمنة.
فجأة، ولأول مرة في حياتي المهنية، ومن حيث لا أدري ولا أحتسب، بلغ إلى علمي وصول موعد "انتخاب مناديب التعاضدية العامة للتربية الوطنية للجمع العام الوطني"، بعدما قضيت سنوات بين وديان وطرقات سلسلة جبال الريف، لا يصلني من الأخبار حينها سوى زيارة مدير المؤسسة والمفتش، أو إعلان نقابة معينة عن إضراب ما، أو قدوم بائعي الموسوعات العلمية بأثمنة فلكية.
بعدما سألت واستفسرت وبحثت عن تفاصيل هذا النوع من الانتخابات، اكتشفت أن المعارف التي بنيتُ حول التعاضدية مجرد سراب فوق سحاب، وأن ثمة أفراد من عائلتي التعليمية يُسمح لهم، بناء على انتخابات معيّنة، بتمثيل إخوانهم والدفاع عنهم، ومساعدتهم والذود عنهم، لدى المصالح الإقليمية والجهوية والمركزية للتعاضدية العامة للتربية الوطنية، وقد جاءت الفرصة للمشاركة في انتخاب من يمثلني في تلك المؤسسة.
دون الخوض في مرحلة تعبئة المنخرطين من أجل التصويت على فلان أو علّان، والتي استمرت إلى الثواني الأخيرة من عمر المباراة، انتقلتُ مباشرة إلى مدينة الجديدة، يوم الأربعاء، من أجل الإدلاء بصوتي رفقة باقي أفراد العائلة التعليمية، لأجد نفسي، مرة أخرى، أمام واقع يراه الكل عجيبا غريبا، ولا أحد من "الكل" يحرّك ساكنا، إلا من همهمات بئيسة، وهمسات ضعيفة بين هذا المنخرط وذاك الراغب في التصويت.
طابور من رجال ونساء التعليم، مُقدّمته في الطابق الثاني من عمارة طويلة، ونهايته على الرصيف قرب السيارات المركونة بالشارع العام، فيما تحوّل درج البناية إلى كراسي إسمنتية باردة، لتمكين بناة الأجيال من أخذ قسط من الراحة الممزوجة بالإذلال والاحتقار والاستصغار، لا لشيء سوى أنهم رغبوا في انتخاب ممثليهم لدى مؤسسة تمصّ الدم من رواتبهم، وترميهم بدريهمات معدودات كلما أصيبوا بوعكة صحية.
فئة من الراغبين في التصويت استعانت بالصبر والصلاة على النبي، طيلة ساعتين، للوصول إلى المعزل والإدلاء بأصواتها، وفئة أخرى حوْلقت واسترجعت وعادت من حيث أتت، تجرّ أذيال الخيبة وراءها، وفئة أخرى تجشمت عناء السفر من مكتب التصويت بمدينة الجديدة إلى غاية أزمور، من أجل المشاركة في الانتخابات داخل حجرة واحدة بمؤسسة تعليمية، فيما اختارت فئة "الراسخين في علم التعاضديات" عدم إيلاء الموضوع أي أهمية، بعدما شاركوا في محطات سابقة لا تختلف قيد أنملة عن محطة ما بعد دستور 2011.
عشرات المنخرطين صُدموا بعدم ورود أسمائهم في لوائح المصوتين، رغم مشاركتهم في المحطات الانتخابية السابقة، فيما يستغرب المرء، داخل المعزل، بكون لوائح المترشحين غير مختومة بطابع التعاضدية العامة للتربية الوطنية، ما يعني أنه بإمكان المصوّت الاستعانة بورقتين أو ثلاث أخرى للرفع من نسبة التصويت، وترجيح كفة مرشح على كفة الآخر، فيما يغيب داخل القاعة ممثلون عن المرشحين، مثلما تشهده جميع أنواع الانتخابات الاعتيادية، لتتبع السير العادي للعملية.
المشرفون على الانتخابات بكل من الجديدة وأزمور يتوفرون على نفس لوائح المصوتين، وفي غياب أي إجراء يمكن الكشف من خلاله عن المتحايلين الراغبين في التصويت مرتين، فُتح نقاش طويل عريض بين متتبعي العملية، حول مدى إمكانية التصويت بالمكتبين، وكيفية معالجة المشكل إذا ما تبيّن، بعد انتهاء العملية، أن فلانا صوّت مرّتين، حيث لا يمكن حينها إلغاء صوته، أو معاقبته في غياب دليل مادي لاتهامه بارتكاب تلك المخالفة.
بعد معاينتي لكل تلك الاختلالات التنظيمية، والظروف التي مرّت فيها العملية الانتخابية، سواء من حيث الاكتظاظ، وتخصيص مكتب تصويت واحد لآلاف الأساتذة بمدينة الجديدة، وترك رجال ونساء التعليم يتوسّدون درج بناية من أجل التصويت، وغياب ممثلين عن المرشحين داخل المكتب، وإمكانية التصويت مرتين، مع اكتفاء المرشحين والمصوتين بالاستنكار الوديع، قرّرت بدوري أن أنضم إلى فئة "الراسخين في علم التعاضديات"، وأن لا أهتم مجددا بهذا النوع من الانتخابات، سواء بالترشح أو التصويت أو المتابعة، وأن أضع رأسي مرة أخرى بين الجماجم، وأنادي بأعلى صوتي على "قاطع الرّؤوس الرواتب"، وأن أحمد الله تعالى على نعمة التعويض عن الملفات الطبية رغم هزالته، إلى أن يقضي الله أمرا كان مفعولا.
عن موقع هسبريس بتاريخ الخميس 12 ماي 2016 - 12:45