مراسلة:ذ. كريمة مهتدي
تعلن المدرسة المغربية رفضها تلقين المعرفة للتلاميذ ونقلها إليهم. لكن، هل استطاعت، لحد الآن، توفير الشروط الديداكتيكية الكفيلة بجعلهم يبنون معارفهم عبر انخراطهم في البحث...؟
إنها لم تتخلص بعد من داء النقل الذي لا يكرس في نفوس التلاميذ سوى الكسل والتواكل ...
بحيث يعتقد المسؤولون عن التعليم في المغرب، بأنه بمجرد إطلاق الشعارات البراقة يؤدي ذلك إلى إصلاح التعليم في بلادنا، حيث يطلعون علينا من حين لآخر بشعار براق، كما أنهم عاجزون عن الدفاع عن مشاريعهم الإصلاحية، الأمر الذي يجعلها زوابع في فنجان، مما يسقط هؤلاء المسؤولين في تبني لغة الأوامر، عوض اعتماد لغة العقل والحوار.
وتبعا لذلك، صار المدرسون ملزمين بالاشتغال بما لا يفهمون أسسه، ولا طبيعته، ولا دلالته، ولا الفائدة منه.... خصوصا مع غياب التكوين المستمر لهذه الفئة، الأمر الذي انعكس على المتعلمين، بحيث أصبحوا مجرد كائنات تشتغل بطريقة أوتوما تيكية، يفعلون ما لا يفهمون، لأنه يفرض عليهم، لكنهم لا يعرفون سبب ذلك، ولا يدركون معنى ما يدرسونه...مما يجعل أفعالهم وتعلمهم وحياتهم عديمة الجدوى ...ويصدق على هؤلاء ما قاله *كونفوشيوس* منذ حوالي خمسة وعشرين قرنا (إن التعلم بدون تفكير هو عمل ضائع، كما أن التفكير بدون تعلم محفوف بالمخاطر).
وعندما نتأمل في كيفية اشتغال نظامنا التعليمي الحالي، نجد بأنه يهدف أساسا إلى الدفع بالمتعلم إلى الفعل فقط دون إدراك معنى ما نفعله، فاذا كانت الوزارة تحدد الغايات والبرامج الدراسية وأساليب التدريس.... فماذا يتبقى للتلاميذ والمدرسين والمؤطرين التربويين ...؟ يظهر لي أن نظامنا التعليمي يشتغل حسب نظام تايلور.
فكثيرا ما يفرض المدرس على التلاميذ تدوين ما يقوله ويكتبه على السبورة...، لكن هل فهم ذلك التلميذ ما كتب؟ وهل الأستاذ يتوفر على عدة ديداكتيكية لتسهيل استيعاب المعرفة من قبل التلاميذ...؟ وبذلك تكون أفعالهم جوفاء خالية من المعنى، فإذا سألت أي تلميذ مغربي عن طموحه، سيجيبك بأنه يطمح إلى الحصول على وظيفة بدل أن يجيب بأنه يبحث عن التعلم ,وسأكتفي في هذا المقال بسوق بعض المؤشرات الواقعية التي لا أظن أحدا يماري في توافرها ووضوح دلالتها على هول مصيبتنا في تعليمنا، فقد أسفرت عقود متوالية من منظور هجين للتربية إلى اخراج أجيال غريبة عن ذاتها مجافية لخصوصيتها الثقافية، مولعة بقشور الحضارة الغربية وسلبياتها دون جوهرها وايجابياتها ومكامن القوة والرقي فيها، ولا تكاد تحس في خطابها ولا في سلوكها غاية في الحياة تسمو بها عن الدنايا وتعبئتها في معركة البناء والصلاح، مع القول بأنك قد تراها في مواقع معينة ولاعتبارات شخصية محضة، تنتقد الأوضاع المزرية وتدعو إلى ضرورة الإصلاح والتغيير والتزام الصدق والإخلاص، وتقول ما لا تفعله ولا تؤمن بفائدته.
فالتعليم الذي لا ينشأ عن رؤية رسالية واضحة ولا يستمد وجوده من الانطلاق منها وترسيخ مقوماتها في النفوس، أنى له أن يربي النشء على قيم المسؤولية والتضحية ومكارم الأخلاق، ومن يتمعن في المناخ العام للمجتمع يجده مشحونا بالكثير من الظواهر والسلوكات الخانقة لكل البوادر الفردية والجماعية التي تروم مغالبة التدهور الأخلاقي والتردي القيمي، وتسعى إلى إيقاظ الضمائر وشحذ الهمم.
فلو سألت خريجي المدارس أو حتى التلاميذ الذين ندرسهم: ما هي قضيتكم في هذه الحياة، والتي تبلورت في نفوسكم وأنتم تترعرعون على كراسي الدرس والتحصيل ؟؟ لما ظفرت منهم بشيء، وإن صدقوك القول، لقالوا إنهم لا يعلمون لهم قضية علمتها إياهم المدرسة، وأن كل ما في الأمر أنهم يهدفون إلى الحصول على عمل مناسب، ليمتلكوا دارا وسيارة وزوجة في أحسن الأحوال، ومن كانت غايته هينة، هان عليه امتطاء كل السبل لتحقيقها غير مبال بمشروعية الوسيلة وسلامة المسلك.
فوجود قضية وطنية منبثقة من ثقافتنا وخصوصيتنا، ومراعية للتحديات المعاصرة، وهادفة الى بناء شعب متماسك معتز بهويته الدينية والوطنية، ومؤهل لصناعة مستقبل زاهر واستئناف التجربة الحضارية المغربية الفريدة، يعد أمرا جوهريا، فهذه القضية عندما تكون حية في الضمائر، وليست مجرد مقدمات تزين بها ديباجة المشاريع الإصلاحية، هي التي من شانها تعبئة إمكانياتنا المادية والبشرية للخروج من حالة الإخفاق والكساح وتبديد الجهود في صياغة الرؤى والتوجهات التي تحاول ملء الفراغ بتبني قضايا غريبة عن الذات المغربية، معاكسة لأغلب تطلعات الشعب، معارضة لقيمه الأصيلة.
إن مصدر فشل منظومتنا يعود بالأساس إلى غياب قضية كبرى تنطلق من ثوابتنا الراسخة، عندما أصبحت هذه الثوابت موضع تبرم وجحود من فئات مجتمعية يرجع إليها عند انطلاق عمليات الإصلاح، فينخرم الإجماع حول تلك الثوابت أو يحتفظ بها في مستوى الشعار المرفوع اعلاميا والمخفوض عمليا على مستوى التنفيذ الحازم للبرامج الدراسية داخل المدرسة، والمشوش عليه في وسائل الاعلام ومختلف مجالات الحياة العامة باتجاهات موهنة لروحه وكاسفة لا شعاعه.
إن قوة كل أمة أوشعب من الشعوب كامنة في ذاتيته التي تزوده بالطاقة المحركة للإبداع والإنتاج والعطاء المستمر، فاذا ضاعت طاقته الذاتية لم تستطع طاقات غيره المستوردة أن تمنحه الدينامية المطلوبة أو تصلح ما لحقه جراء ذلك من أعطاب بليغة.
فلو كانت لنا قضية واضحة في أذهاننا حية في مشاعرنا، لما فشل الميثاق الوطني للتربية والتكوين قبل استكمال عشريته الأولى، ولأمكننا تجاوز ما قد يكون فيه من خلل أو قصور بروح متفائلة وعزيمة نافذة لا ترضى بديلا عن النجاح، ومقارعة الصعاب والتحديات، وقهرها والانتصار عليها وما لم نحشد كل ما عندنا من قوى معنوية ومادية لنصنع لأنفسنا قضيتنا الخاصة بنا، نبنيها بمقدراتنا الخاصة وعقولنا, وتجسد طموحنا في غد أفضل , وتكون قادرة على تعبئتنا جميعا كفرد واحد لخوض ملحمة البناء والنماء, فان أي ميثاق لأي اصلاح لن يكون مآله إلا الفشل وتكريس العجز والوهن.
إن الأستاذ الذي يأتي إلى القسم ولم يهيئ درسه أو يهيئه دون إتقان، أوالذي يقدم درسه بصورة سطحية, ويبخل بما عنده من معرفة على تلامذته ولا يحمل هم إفادتهم والنصح لهم ولا يعبأ بالصورة المشينة التي يكونها الفصل عنه, أو يدمن ارتكاب الأخطاء أو أي خطأ تربوي من حين لأخر، فمن المؤكد أنه غير منخرط في المشروع الإصلاحي؛ ليس ذلك تأسيسا على موقف سلبي اتخذه ازاءه, وانما لكونه تعود ان يغش او يتراخى في عمله، ولا عهد له بالأمانة والاتقان, ولم يتشبع بقيم المسؤولية وحب العمل والإخلاص فيه, لا في المدرسة ولا في الشارع أو من الاعلام والثقافة السائدة , ولم يجد في محيطه نماذج مثالية للصدق والجدية إلا نادرا حتى يتبين من خلالها أنه مقصر ومفرط ومعاكس لتوجه مجتمعه, ويرى نفسه غير معني في شيء بتقدم مجتمعه ونهضته أو المساهمة في رفع تحدياته, فذلك ليس في وعيه أنه من الواجبات الملزمة وربما اعتبره من الواجبات التي دأب على تضييعها والتملص منها, ولو عرضا حاول ان يقوم بالمهمة التربوية على احسن وجه لفتح على نفسه ابوابا واسعة من النقد والقدح والتهكم والمضايقات في كل جهة, لان فعله حينئذ يصبح شذوذا عن القاعدة العامة داخل المجتمع, وخروجا عن النمط المهين ,فكم هم الجادون في مختلف المواقع الذين تم إعفاؤهم عن مزاولة مهامهم بذريعة أنهم لم يحسنوا التكيف مع ظروفهم.
فعلينا اذن ان نسعى لبناء قضية مجتمعية جادة وصادقة تعبر عن الذات المغربية العريقة وتجسد آمالها الكبرى وطموحاتها المشروعة وتنفتح على إيجابيات العصر وترفع تحدياته، وساعتها سنجد الارادات الواعدة والاستعدادات اللازمة لتحقيق كل الغايات ودفع كل المعيقات، والتصدي لكل العقبات وانجاح كل الخطط والمشاريع ... فقوة الأمة رهينة بقوة منظومتها التربوية خصوصا مع توالي التحديات التي تواجهها المدرسة المغربية، ولذلك نقترح بعض الحلول السريعة لتجاوز هذه التحديات منها ما يلي:
- إعادة النظر في البرامج والمناهج، بما يحقق المقاصد العامة، ويجعلها مادة تسري روحها في مجمل المنظومة التعليمة وإحداث التجانس والتكامل بين كل المواد، مع مراعاة حاجات المواطن المغربي.
-إمكانية الحد من مشكلة البطالة بتركيز الجهود على العلاقة التبادلية التي تربط القطاع الخاص بالجامعة وهي علاقة موجودة، ولكنها لا ترقى مطلقا إلى مستوى التطلعات. بالطبع، لا يعني هذا عدم أهمية دور الحكومة، بل العكس هو الصحيح، حيث يمكن الحد من معدل البطالة بأن تقوم الدولة ممثلة في أجهزتها المعنية بتشجيع الأبحاث العلمية التي تتناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة وبتحديد وتفعيل الأدوار التي يجب أن تقوم بها الجامعات والقطاع الخاص، عن طريق توظيف العمالة المغربية المدربة والحد من العمالة الأجنبية.
-رسم سياسة عامة لذلك انطلاقاً من أن هؤلاء العاطلين هم أبناء المجتمع وخريجو جامعاته المحلية لذا لابد من قيام مؤسسات المجتمع المدني بتحقيق مبدأ التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع. كما لابد من أن تعيد الجامعات هيكلة كلياتها وأقسامها التعليمية، بما يخدم سوق العمل وخطط التنمية، ولا بد أن تتحول تلك الجامعات إلى منظمات متعلمة.
-وينبغي أن يحتل المغرب مكانة خاصة في أية استراتيجية لمواجهة البطالة. وعلى جهات التوظيف التنسيق مع الجامعات من خلال برامج التعليم التعاوني (التطبيق الميداني داخل جهات العمل) بحيث تضمن تخرج عدد من المؤهلين لوظائفها وبالتالي استقطابهم للعمل فيها. وعلى الدولة المبادرة بعلاج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الشباب علاجا جذريا، وذلك ببناء وحدات إنتاجية وإقامة مشروعات ضخمة تستوعب أعدادا كبيرة من الشباب حتى يمكن توفير فرص العمل والقضاء على البطالة.
-كما أدعو الشباب المغربي إلى المشاركة السياسية من مختلف الطبقات في تكريس الشورى واتخاذ القرارات التي تمس حياة المواطن سواء داخل الأسرة أو المدرسة أوالسكن، مما يفضي إلى تخريج عنصر بشري ناضج ومجتمع متحضر يفكر بالتنمية وينطلق نحو النهضة، مع تدعيم المشاركة الشعبية التي تقتضي ضرورة القضاء على البطالة ومواجهة مشكلة المناطق العشوائية في بعض المدن، كما ادعوا إلى الحوارات الوطنية التي تضمن توثيق الصلة بين الدولة والمجتمع وتضمن كذلك إتاحة الفرصة أمام القطاعات المختلفة للإسهام بنصيب في صياغة التوجهات السياسية، والمشاركة في أزمات الأمة، ومنها البطالة.
-اعتماد البحث التربوي الجاد الذي سيجعل رؤيتنا التربوية واضحة نسبيا، مما يمكننا من خلق تراكم تربوي معرفي حول مدرستنا المغربية يساعد على تحسين ممارستنا التربوية.
-ضرورة منح معنى للتعلم عن طريق اعتماد طرائق بيداغوجية متنوعة تجعل التلاميذ يكتشفون بأنفسهم العمل الذي ينبغي أن ينجزوه، ولإحداث ذلك، يقترح البيداغوجيون وضعيات عدة امام المتعلم، تضعه في صراع مع ذاته، حيث يشك فيها ويسائلها، ويقطع مع تصوراته الأولية الخاطئة عبر تجاوز ما كان يراه ويعرفه... إن تحديد ما يجب فعله عقب كل وضعية أمر أساسي، لكن هل يجب المرور عبر وضعية تعليمة تطرح المشاكل وتثير الأسئلة...؟ اليس من المفيد جعل التلاميذ يتدخلون في مضمون مسالة فعلية وفي الأنشطة الممكنة التي ينبغي القيام بها لحلها؟ اليس من الأفضل ان يكون الطابع الغامض كامنا في ذاتها، وليس في عدم معرفة المهمة التي ينبغي إنجازها؟ فعندما يكون لمعرفة معينة معنى بالنسبة للتلميذ، يمكن للمدرس ان يعتمد على المضامين المفهومية في تعميق تعلم التلاميذ...وعندما لا يكون للمعرفة أي معنى بالنسبة للتلميذ، يمكن للمدرس ان يبتكرها عبر خلق وضعيات تعلمية مثيرة للتلميذ ومستفزة له....
وعموما يجب اخراج المدرسة المغربية من ظلمة النزعة التايلورية، عبر تمكين المدرسة من إقامة علاقة سليمة مع المعرفة والتلاميذ ...، وتوفير الشروط الكفيلة بانخراط التلاميذ في بناء معارفهم الخاصة ... بفتح المدارس واغلاق السجون , لأنه من يفتح باب مدرسة فانه يقفل أبواب العديد من السجون...وهكذا تكتسب مدرستنا معنى ونتمكن من اخراج الشباب المغربي من هواجس التوظيف والبحث عن فرصة عمل لائقة، إلى خوض غمار تحديات التعلم، فكل مواطن مغربي معني بالدخول في غمار تحديات التعلم، ومن يتوقف عن التعلم، هو شائخ، سواء أكان في العشرين او الثمانين، وقيمة الانسان فيما يضيفه الى الحياة بين ميلاده وموته ,ولذلك فلنضفْ شيئا إلى الحياة بدل ان نركن الى التقليد والجمود, ولنتسلح بروح المبادرة، ولمن يظن بان التعليم مكلف، فليجرب الجهل وليراقب ما سيحدث له في هذه الحياة.
تعلن المدرسة المغربية رفضها تلقين المعرفة للتلاميذ ونقلها إليهم. لكن، هل استطاعت، لحد الآن، توفير الشروط الديداكتيكية الكفيلة بجعلهم يبنون معارفهم عبر انخراطهم في البحث...؟
إنها لم تتخلص بعد من داء النقل الذي لا يكرس في نفوس التلاميذ سوى الكسل والتواكل ...
بحيث يعتقد المسؤولون عن التعليم في المغرب، بأنه بمجرد إطلاق الشعارات البراقة يؤدي ذلك إلى إصلاح التعليم في بلادنا، حيث يطلعون علينا من حين لآخر بشعار براق، كما أنهم عاجزون عن الدفاع عن مشاريعهم الإصلاحية، الأمر الذي يجعلها زوابع في فنجان، مما يسقط هؤلاء المسؤولين في تبني لغة الأوامر، عوض اعتماد لغة العقل والحوار.
وتبعا لذلك، صار المدرسون ملزمين بالاشتغال بما لا يفهمون أسسه، ولا طبيعته، ولا دلالته، ولا الفائدة منه.... خصوصا مع غياب التكوين المستمر لهذه الفئة، الأمر الذي انعكس على المتعلمين، بحيث أصبحوا مجرد كائنات تشتغل بطريقة أوتوما تيكية، يفعلون ما لا يفهمون، لأنه يفرض عليهم، لكنهم لا يعرفون سبب ذلك، ولا يدركون معنى ما يدرسونه...مما يجعل أفعالهم وتعلمهم وحياتهم عديمة الجدوى ...ويصدق على هؤلاء ما قاله *كونفوشيوس* منذ حوالي خمسة وعشرين قرنا (إن التعلم بدون تفكير هو عمل ضائع، كما أن التفكير بدون تعلم محفوف بالمخاطر).
وعندما نتأمل في كيفية اشتغال نظامنا التعليمي الحالي، نجد بأنه يهدف أساسا إلى الدفع بالمتعلم إلى الفعل فقط دون إدراك معنى ما نفعله، فاذا كانت الوزارة تحدد الغايات والبرامج الدراسية وأساليب التدريس.... فماذا يتبقى للتلاميذ والمدرسين والمؤطرين التربويين ...؟ يظهر لي أن نظامنا التعليمي يشتغل حسب نظام تايلور.
فكثيرا ما يفرض المدرس على التلاميذ تدوين ما يقوله ويكتبه على السبورة...، لكن هل فهم ذلك التلميذ ما كتب؟ وهل الأستاذ يتوفر على عدة ديداكتيكية لتسهيل استيعاب المعرفة من قبل التلاميذ...؟ وبذلك تكون أفعالهم جوفاء خالية من المعنى، فإذا سألت أي تلميذ مغربي عن طموحه، سيجيبك بأنه يطمح إلى الحصول على وظيفة بدل أن يجيب بأنه يبحث عن التعلم ,وسأكتفي في هذا المقال بسوق بعض المؤشرات الواقعية التي لا أظن أحدا يماري في توافرها ووضوح دلالتها على هول مصيبتنا في تعليمنا، فقد أسفرت عقود متوالية من منظور هجين للتربية إلى اخراج أجيال غريبة عن ذاتها مجافية لخصوصيتها الثقافية، مولعة بقشور الحضارة الغربية وسلبياتها دون جوهرها وايجابياتها ومكامن القوة والرقي فيها، ولا تكاد تحس في خطابها ولا في سلوكها غاية في الحياة تسمو بها عن الدنايا وتعبئتها في معركة البناء والصلاح، مع القول بأنك قد تراها في مواقع معينة ولاعتبارات شخصية محضة، تنتقد الأوضاع المزرية وتدعو إلى ضرورة الإصلاح والتغيير والتزام الصدق والإخلاص، وتقول ما لا تفعله ولا تؤمن بفائدته.
فالتعليم الذي لا ينشأ عن رؤية رسالية واضحة ولا يستمد وجوده من الانطلاق منها وترسيخ مقوماتها في النفوس، أنى له أن يربي النشء على قيم المسؤولية والتضحية ومكارم الأخلاق، ومن يتمعن في المناخ العام للمجتمع يجده مشحونا بالكثير من الظواهر والسلوكات الخانقة لكل البوادر الفردية والجماعية التي تروم مغالبة التدهور الأخلاقي والتردي القيمي، وتسعى إلى إيقاظ الضمائر وشحذ الهمم.
فلو سألت خريجي المدارس أو حتى التلاميذ الذين ندرسهم: ما هي قضيتكم في هذه الحياة، والتي تبلورت في نفوسكم وأنتم تترعرعون على كراسي الدرس والتحصيل ؟؟ لما ظفرت منهم بشيء، وإن صدقوك القول، لقالوا إنهم لا يعلمون لهم قضية علمتها إياهم المدرسة، وأن كل ما في الأمر أنهم يهدفون إلى الحصول على عمل مناسب، ليمتلكوا دارا وسيارة وزوجة في أحسن الأحوال، ومن كانت غايته هينة، هان عليه امتطاء كل السبل لتحقيقها غير مبال بمشروعية الوسيلة وسلامة المسلك.
فوجود قضية وطنية منبثقة من ثقافتنا وخصوصيتنا، ومراعية للتحديات المعاصرة، وهادفة الى بناء شعب متماسك معتز بهويته الدينية والوطنية، ومؤهل لصناعة مستقبل زاهر واستئناف التجربة الحضارية المغربية الفريدة، يعد أمرا جوهريا، فهذه القضية عندما تكون حية في الضمائر، وليست مجرد مقدمات تزين بها ديباجة المشاريع الإصلاحية، هي التي من شانها تعبئة إمكانياتنا المادية والبشرية للخروج من حالة الإخفاق والكساح وتبديد الجهود في صياغة الرؤى والتوجهات التي تحاول ملء الفراغ بتبني قضايا غريبة عن الذات المغربية، معاكسة لأغلب تطلعات الشعب، معارضة لقيمه الأصيلة.
إن مصدر فشل منظومتنا يعود بالأساس إلى غياب قضية كبرى تنطلق من ثوابتنا الراسخة، عندما أصبحت هذه الثوابت موضع تبرم وجحود من فئات مجتمعية يرجع إليها عند انطلاق عمليات الإصلاح، فينخرم الإجماع حول تلك الثوابت أو يحتفظ بها في مستوى الشعار المرفوع اعلاميا والمخفوض عمليا على مستوى التنفيذ الحازم للبرامج الدراسية داخل المدرسة، والمشوش عليه في وسائل الاعلام ومختلف مجالات الحياة العامة باتجاهات موهنة لروحه وكاسفة لا شعاعه.
إن قوة كل أمة أوشعب من الشعوب كامنة في ذاتيته التي تزوده بالطاقة المحركة للإبداع والإنتاج والعطاء المستمر، فاذا ضاعت طاقته الذاتية لم تستطع طاقات غيره المستوردة أن تمنحه الدينامية المطلوبة أو تصلح ما لحقه جراء ذلك من أعطاب بليغة.
فلو كانت لنا قضية واضحة في أذهاننا حية في مشاعرنا، لما فشل الميثاق الوطني للتربية والتكوين قبل استكمال عشريته الأولى، ولأمكننا تجاوز ما قد يكون فيه من خلل أو قصور بروح متفائلة وعزيمة نافذة لا ترضى بديلا عن النجاح، ومقارعة الصعاب والتحديات، وقهرها والانتصار عليها وما لم نحشد كل ما عندنا من قوى معنوية ومادية لنصنع لأنفسنا قضيتنا الخاصة بنا، نبنيها بمقدراتنا الخاصة وعقولنا, وتجسد طموحنا في غد أفضل , وتكون قادرة على تعبئتنا جميعا كفرد واحد لخوض ملحمة البناء والنماء, فان أي ميثاق لأي اصلاح لن يكون مآله إلا الفشل وتكريس العجز والوهن.
إن الأستاذ الذي يأتي إلى القسم ولم يهيئ درسه أو يهيئه دون إتقان، أوالذي يقدم درسه بصورة سطحية, ويبخل بما عنده من معرفة على تلامذته ولا يحمل هم إفادتهم والنصح لهم ولا يعبأ بالصورة المشينة التي يكونها الفصل عنه, أو يدمن ارتكاب الأخطاء أو أي خطأ تربوي من حين لأخر، فمن المؤكد أنه غير منخرط في المشروع الإصلاحي؛ ليس ذلك تأسيسا على موقف سلبي اتخذه ازاءه, وانما لكونه تعود ان يغش او يتراخى في عمله، ولا عهد له بالأمانة والاتقان, ولم يتشبع بقيم المسؤولية وحب العمل والإخلاص فيه, لا في المدرسة ولا في الشارع أو من الاعلام والثقافة السائدة , ولم يجد في محيطه نماذج مثالية للصدق والجدية إلا نادرا حتى يتبين من خلالها أنه مقصر ومفرط ومعاكس لتوجه مجتمعه, ويرى نفسه غير معني في شيء بتقدم مجتمعه ونهضته أو المساهمة في رفع تحدياته, فذلك ليس في وعيه أنه من الواجبات الملزمة وربما اعتبره من الواجبات التي دأب على تضييعها والتملص منها, ولو عرضا حاول ان يقوم بالمهمة التربوية على احسن وجه لفتح على نفسه ابوابا واسعة من النقد والقدح والتهكم والمضايقات في كل جهة, لان فعله حينئذ يصبح شذوذا عن القاعدة العامة داخل المجتمع, وخروجا عن النمط المهين ,فكم هم الجادون في مختلف المواقع الذين تم إعفاؤهم عن مزاولة مهامهم بذريعة أنهم لم يحسنوا التكيف مع ظروفهم.
فعلينا اذن ان نسعى لبناء قضية مجتمعية جادة وصادقة تعبر عن الذات المغربية العريقة وتجسد آمالها الكبرى وطموحاتها المشروعة وتنفتح على إيجابيات العصر وترفع تحدياته، وساعتها سنجد الارادات الواعدة والاستعدادات اللازمة لتحقيق كل الغايات ودفع كل المعيقات، والتصدي لكل العقبات وانجاح كل الخطط والمشاريع ... فقوة الأمة رهينة بقوة منظومتها التربوية خصوصا مع توالي التحديات التي تواجهها المدرسة المغربية، ولذلك نقترح بعض الحلول السريعة لتجاوز هذه التحديات منها ما يلي:
- إعادة النظر في البرامج والمناهج، بما يحقق المقاصد العامة، ويجعلها مادة تسري روحها في مجمل المنظومة التعليمة وإحداث التجانس والتكامل بين كل المواد، مع مراعاة حاجات المواطن المغربي.
-إمكانية الحد من مشكلة البطالة بتركيز الجهود على العلاقة التبادلية التي تربط القطاع الخاص بالجامعة وهي علاقة موجودة، ولكنها لا ترقى مطلقا إلى مستوى التطلعات. بالطبع، لا يعني هذا عدم أهمية دور الحكومة، بل العكس هو الصحيح، حيث يمكن الحد من معدل البطالة بأن تقوم الدولة ممثلة في أجهزتها المعنية بتشجيع الأبحاث العلمية التي تتناول هذا الموضوع بالبحث والدراسة وبتحديد وتفعيل الأدوار التي يجب أن تقوم بها الجامعات والقطاع الخاص، عن طريق توظيف العمالة المغربية المدربة والحد من العمالة الأجنبية.
-رسم سياسة عامة لذلك انطلاقاً من أن هؤلاء العاطلين هم أبناء المجتمع وخريجو جامعاته المحلية لذا لابد من قيام مؤسسات المجتمع المدني بتحقيق مبدأ التوازن بين مصلحة الفرد ومصلحة المجتمع. كما لابد من أن تعيد الجامعات هيكلة كلياتها وأقسامها التعليمية، بما يخدم سوق العمل وخطط التنمية، ولا بد أن تتحول تلك الجامعات إلى منظمات متعلمة.
-وينبغي أن يحتل المغرب مكانة خاصة في أية استراتيجية لمواجهة البطالة. وعلى جهات التوظيف التنسيق مع الجامعات من خلال برامج التعليم التعاوني (التطبيق الميداني داخل جهات العمل) بحيث تضمن تخرج عدد من المؤهلين لوظائفها وبالتالي استقطابهم للعمل فيها. وعلى الدولة المبادرة بعلاج المشكلات الاقتصادية والاجتماعية التي يعاني منها الشباب علاجا جذريا، وذلك ببناء وحدات إنتاجية وإقامة مشروعات ضخمة تستوعب أعدادا كبيرة من الشباب حتى يمكن توفير فرص العمل والقضاء على البطالة.
-كما أدعو الشباب المغربي إلى المشاركة السياسية من مختلف الطبقات في تكريس الشورى واتخاذ القرارات التي تمس حياة المواطن سواء داخل الأسرة أو المدرسة أوالسكن، مما يفضي إلى تخريج عنصر بشري ناضج ومجتمع متحضر يفكر بالتنمية وينطلق نحو النهضة، مع تدعيم المشاركة الشعبية التي تقتضي ضرورة القضاء على البطالة ومواجهة مشكلة المناطق العشوائية في بعض المدن، كما ادعوا إلى الحوارات الوطنية التي تضمن توثيق الصلة بين الدولة والمجتمع وتضمن كذلك إتاحة الفرصة أمام القطاعات المختلفة للإسهام بنصيب في صياغة التوجهات السياسية، والمشاركة في أزمات الأمة، ومنها البطالة.
-اعتماد البحث التربوي الجاد الذي سيجعل رؤيتنا التربوية واضحة نسبيا، مما يمكننا من خلق تراكم تربوي معرفي حول مدرستنا المغربية يساعد على تحسين ممارستنا التربوية.
-ضرورة منح معنى للتعلم عن طريق اعتماد طرائق بيداغوجية متنوعة تجعل التلاميذ يكتشفون بأنفسهم العمل الذي ينبغي أن ينجزوه، ولإحداث ذلك، يقترح البيداغوجيون وضعيات عدة امام المتعلم، تضعه في صراع مع ذاته، حيث يشك فيها ويسائلها، ويقطع مع تصوراته الأولية الخاطئة عبر تجاوز ما كان يراه ويعرفه... إن تحديد ما يجب فعله عقب كل وضعية أمر أساسي، لكن هل يجب المرور عبر وضعية تعليمة تطرح المشاكل وتثير الأسئلة...؟ اليس من المفيد جعل التلاميذ يتدخلون في مضمون مسالة فعلية وفي الأنشطة الممكنة التي ينبغي القيام بها لحلها؟ اليس من الأفضل ان يكون الطابع الغامض كامنا في ذاتها، وليس في عدم معرفة المهمة التي ينبغي إنجازها؟ فعندما يكون لمعرفة معينة معنى بالنسبة للتلميذ، يمكن للمدرس ان يعتمد على المضامين المفهومية في تعميق تعلم التلاميذ...وعندما لا يكون للمعرفة أي معنى بالنسبة للتلميذ، يمكن للمدرس ان يبتكرها عبر خلق وضعيات تعلمية مثيرة للتلميذ ومستفزة له....
وعموما يجب اخراج المدرسة المغربية من ظلمة النزعة التايلورية، عبر تمكين المدرسة من إقامة علاقة سليمة مع المعرفة والتلاميذ ...، وتوفير الشروط الكفيلة بانخراط التلاميذ في بناء معارفهم الخاصة ... بفتح المدارس واغلاق السجون , لأنه من يفتح باب مدرسة فانه يقفل أبواب العديد من السجون...وهكذا تكتسب مدرستنا معنى ونتمكن من اخراج الشباب المغربي من هواجس التوظيف والبحث عن فرصة عمل لائقة، إلى خوض غمار تحديات التعلم، فكل مواطن مغربي معني بالدخول في غمار تحديات التعلم، ومن يتوقف عن التعلم، هو شائخ، سواء أكان في العشرين او الثمانين، وقيمة الانسان فيما يضيفه الى الحياة بين ميلاده وموته ,ولذلك فلنضفْ شيئا إلى الحياة بدل ان نركن الى التقليد والجمود, ولنتسلح بروح المبادرة، ولمن يظن بان التعليم مكلف، فليجرب الجهل وليراقب ما سيحدث له في هذه الحياة.