مواقع التواصل التربوي: بعيدا عن خطاب الكراهية..
من أجل مأسسة الإعلام التربوي
مرسلة : سعيد الشقرونيمن الناحية التاريخية، معاناة الأقلام الرصينة التي تعيش وعيها الشقي، ومقاومة من يحمل قلما متقدا بحرارة الانتماء إلى عقلية البقاء من أجل الآخر، ليسا بالشيء الجديد في ثقافتنا التي ارتبطت بسياقات سياسية حركتها صراعات ضمن معادلات الفكر الإسلامي، بدءا مما سمي بانتصار الإجماع وقتل الاختلاف، إلى مرحلة التحرر والتجرؤ على "بعض المقدس"، وانتهاء بتمييع مفهوم الحرية على مستوى التمثل والتعبير خصوصا في الكتابة، وهو الأمر الحاضر الآن بشكل من الأشكال..
لقد انتهى زمن احتكار مقامات الكتابة والبحث عن الوساطات من أجل النشر والتعبير، وانفتح الفضاء الأزرق ليشمل برحمته من يمتلك أبجديات الرقمنة وتحريك الفأرة، وكثرت مواقع التربية والتعليم بإمكاناتها الهائلة والجذابة، وساير بعضها المتغيرات الاجتماعية والسياسية التي عرفها واقعنا، ولعب بعضها الآخر أدوارا هامة على مستوى نشر وتعميم المعلومات البيداغوجية والمستجدات التربوية مثل المذكرات الرسمية ومختلف الأنشطة المرتبطة بحقل التربية والتكوين، وتقديم خدمات لنساء ورجال التعليم من خلال إخبارهم بمواعيد الحركات الانتقالية، ومواعيد المباريات والتوجيه والمسالك والامتحانات المهْنية والترقية والتوعية القانونية، والإجابة عن بعض الاستفسارات داخل المنتديات إلخ.. ؛ بل إن بعض المواقع طورت رؤيتها للاشتغال عبر الانخراط في مشاريع تكوين محمودة حيث خصصت مساحات ممتعة من صفحاتها لتبادل المقالات والدراسات والأبحاث وتبادل الجذاذات ونماذج الفروض والامتحانات وغيرها من الأمور ذات الصلة بالمجال التربوي والتعليمي.
هي قدرة هائلة وإمكانات حقيقية تتيحها هذه المواقع بوصفها وسيلة إعلام بما تقدمه من معلومات متنوعة، مثلما أنها تسمح للعاملين في حقل التربية والتكوين بتبادل المواقف ووجهات النظر حول السياسة التعليمية، سواء في سياقاتها الحقيقية والصحيحة، أو وَفْقَ قاعدة "ويل للمصلين"، ليغدو التساؤل المطروح حول إمكانية انخراط هذه الوسائط التربوية في تكوين الرأي العام التعليمي وتوجيهه إلى اتخاذ ردود أفعال تجاه قضايا أو أشخاص أو مرجعيات واتخاذ أحكام مسبقة، خصوصا عند غياب متلقي حصيف ومتابع مُتبين..
في هذا الصدد، ونحن نرصد هذا الأفق الوردي الذي تضطلع به بعض المواقع التعليمية والتربوية، نُصاب بنوع من الأسف والقلق ونحن نعاين تحول بعضها إلى وسيط من وسائط تبادل الشتائم والسباب والفضح والتفاضح، بشكل ربما يحتاج إلى أكثر من وقفة من قِبَلِ الباحثين في علوم التربية والنفس والمجتمع، إلى درجة يمكن معها الآن أن نتساءل حول الدور التربوي لمواقع التواصل التربوي والتعليمي، ومدى التأثير التربوي والنفسي الذي يمكن أن يحدثه انحراف بعض هذه المواقع التي استعانت بصفحات الفايسبوك لتوسيع قوافل القراء وأصحاب "الجيمات" عن مقاصدها التربوية، في الوقت الذي يفترض فيه أن يفكر فيه القَيِمُون على هذا الحقل في الآليات المُمْكِنة لجعل هذه المنابر خادمة للرسالة التربوية والنفسية، ومؤثرة بالشكل الايجابي في الجيل الذي نريد، وراسمة لصورة واضحة لوظيفة مهنة التعليم.
إن الإمكانات التي تتيحها بعض مواقع التربية بدءا من سهولة الولوج واقتناع "الزوار" -وليس القارئ وأحسب أن للتسمية دلالتها- بضرورة مسايرة ومواكبة الجديد، قد يَجْرِفُ بعض من تخونه الذاكرة وتعوزه معرفة السياقات إلى أنماط سلوكية غير مرغوب فيها، واتخاذ مواقف قطعية تجاه قضايا وسياسات تحتاج إلى إعمال النقد بدل تقاسم منشورات وتلخيص أقوال وشهادات في صور بطريقة التدليس والمونتاج و الفوتوشوب.
لا بد من الإقرار، أكثر من أي وقت مضى بأنه تم اقتحام حرمة البيوت والمؤسسات إلى حد كبير بهذا الوسيط الرقمي وغيره -ضمن التحولات القيمية التي تعرفها مجتمعات اليوم- الذي أحدث تحولات كبيرة في القيم التي كان رواد حقل التربية والتكوين يؤمنون بها خصوصا في العشرين سنة الأخيرة، بل إننا نخشى أنه إذا لم يُواجه الأمر بمعركة تربوية وأخلاقية نسقية وراشدة تتفهم تحولات الذوق، سينتهي بنا المطاف إلى شعوب وقبائل يحكمهما منطق الصراع والاختلاف واليأس والعدمية.
نتساءل:
كيف تُصْنَعُ الأحقاد بين نساء ورجال التعليم؟
وكيف تنخرط بعض الجرائد الصفراء وبعض منابر التنفيس الرقمي في ترويج ثقافة الكراهية بين صفوف من هم في مرتبة الأنبياء؟
وكيف تحولت أو انحرفت بعض مواقع التربية والتكوين عن خطها التحريري لتنخرط بقصد أو بغيره في إشاعة مناخ الإحباط والعدمية بعين لا تنام لبعض "الكُويتبة" البارعين في إلهاء نساء ورجال التعليم عن مشاكلهم الحقيقية، وجَرِ بعضهم إلى بُولِيمِيكات الجانب، وتواتر الأخبار الزائفة والهاتشتاجات الظلامية المفبركة..؟
وكيف ينخرط العديد من نساء ورجال التعليم وخاصة الشباب منهم في تنفيذ أجندات آخرين؟
لا بد لمواقع التربية والتكوين بمختلف أنماطها من تغيير إستراتيجي ينطلق من فكرة كون نساء ورجال التعليم –وأنا هنا لا أستعمل كلمة الشغيلة- مستهدفين من قُوى خفية وظاهرة في ذات الآن. لا بد لمواقع التواصل التعليمية والتربوية أن تُحَصِنَ خطها التحريري بنشر الفكر التربوي الوحدوي الباحث عن المساحة المشتركة بين الباحثين عن المعرفة التربوية، وتقديم صورة حية وايجابية عن الجسم التنويري خصوصا لطلبة الجامعات وطلبة المراكز الجهوية لمهن التربية والتكوين، وللمتربصين برجل التعليم بوعي أو بغيره، خصوصا وأن كل زبون بات ينادى عليه في الأسواق بأستاذ؛ إنه حقل التعليم باعتباره مدخلا لحقن الدماء وحفظ الشباب من الهلاك، وحماية الوطن من أعداء الداخل والخارج.
الكلام نفسه نقوله باحتراز كبير عن الصحف الورقية، غير إن مساحة التلقي التي يحظى بها إعلام الرقم تدعونا إلى تكاثف الجهود ومعرفة أعداء الفكر المسؤول والتواصل السليم.
إن الإعلام التربوي مطالب بوضع زواره في صورة المشهد القيمي والرمزي الذي وصل إليه الأستاذ في المجتمعات المتقدمة، إنه مطالب بالاستعانة بالأقلام الحالمة والعاقلة والمُتَبَيِنَة والكونية المنخرطة في هموم المجتمع، والعاكسة لسلوكيات طالب العلم من خلال منشورات ومقالات ودراسات تعكس الأخلاق الكريمة واحترام المعلم، وحب الوالدين والعلم والزملاء والوطن والحفاظ على النظام، والتعاون في الخير، وصون المجتمع بصون الأسرة، وغيرها من شيم المسلم الكريم والأصيل، خصوصا و أن المكتوب الرقمي وبعض التغريدات واللوحات المنشورة بحرفية عالية، تكتسي عند قارئها "قدسية" قد يجعلها مؤثرة بشكل سلبي في تفكيره وقيمه وسلوكه ووجدانه خصوصا إذا كانت صادرة عن أحقاد أو تصريفا لايديلوجية معينة.
كما تساءلنا قبل قليل، نتساءل مرة أخرى: هل آن الأوان للحديث عن سياسة للإعلام التربوي باعتباره رُزمانة من المبادئ والقواعد والأسس والروائز والتوجيهات والأساليب الكفيلة بصون الإعلام الرقمي التربوي من العبث والدجل؟
من مصلحته ترك الحبل على الغارب كي يتكلم وينشر أيا كان ما يريد، خلافا لما هو معمول به في الإصدارات الورقية التي تحترم نفسها؟
ألا يمكن في حالة وجود سياسة للإعلام التربوي والتعليمي –مع تقديرنا للفرق بين التربوي والتعليمي- أن يضمن الحد من المهاترات وتبادل الاتهامات بأسماء مستعارة بين نساء ورجال التعليم؟
وبعيدا عن أي رغبة في مصادرة حق الأشخاص في التعبير، ألن تكون هذه السياسة مساعدة على توضيح العلاقة بين الإعلام التربوي والإعلام التعليمي والتربية الإعلامية؟
أكيد هناك مواقع كثيرة تحترم خطها التحريري، لكن من بين الحاجات التي نحتاجها اليوم، مواقع إعلامية تعكس أهداف التربية ومستوى أعضائها مادام الأمر يتعلق ببناء الإنسان وتحقيق رسالة التربية في أسمى معانيها.
أكيد إننا في حاجة إلى سؤال من يبدأ فعل التغيير الحقيقي في حقل التربية والتكوين، وفي حاجة إلى إرادة تصر على تأسيس قناعة مفادها أن بناء الوعي وصناعة الإنسان لا يهددان أصحاب المصالح..
فمتى يعلم المُصِرون على "التكليخ" أن كلفة الجهل أخطر على المجتمعات؟
نريد متفاعلين وزوار لا يتبادلون الشتائم وعبارات التخوين، ونريد منهم حوارا يُدارُ بالحسنى وبالنقاش الوازن وبالأسماء الحقيقية..
نريد مجالا أزرقا يسع الجميع، نريد أن يعلم مُعِدو بعض مواقع التربية والتكوين أن المسألة تتعدى فرض الذات والبحث عن موقع داخل خريطة التموقعات الاجتماعية، نريد أن نعرف جميعا أن المسألة أكبر من ابتزاز هذا المسؤول أو ذاك..المسألة أكبر.. المسألة معركة: معركة مساندة الفئات المستضعفة من نساء ورجال التعليم.. معركة تحفيز نساء ورجال التعليم على الانخراط في سلك التدافع الاجتماعي والدفاع عن الظلم وقضايا الوطن والأمة والإنسان في مختلف وسائط التواصل المعروفة.. المعركة، تقديم صورة حقيقية لمن يجب الوقوف إليه تبجيلا.. المعركة، مواجهة العدو الأكبر الذي يهدد المجتمعات برمتها: الطائفية والفكر الذي يغذي التطرف، والتحكم والتسلط القادم من الآخر الداخل والخارج..وهلم قهرا..