المدرسة ورهان التربية على المواطنة والسلوك المدني

المدرسة ورهان التربية على المواطنة والسلوك المدني
                                    ذة. رقية أيت حمو*
يكتسي موضوع  "التربية على المواطنة  والسلوك المدني" أهمية كبرى  من حيث  راهنيته اليوم، لا سيما أمام التحولات العميقة التي تشهدها " القرية الكونية "، وبحكم تغير المفهوم القيمي وتطور منظومة القيم، إلى جانب التغيرات المتسارعة التي يعرفها العالم على مستوى الأنظمة المرجعية الثقافية  والإجتماعية.
فلنطرح إذن هذا السؤال الجوهري الذي يجعلنا نقف لنتساءل عن ضرورة انخراط المدرسة المغربية في ترسيخ التربية على القيم وسلوك المواطنة والتصدي لكل أشكال العنف التي أصبحت ظاهرة  تهدد الحياة الدراسية، وسلامة الكيان المجتمعي واستقراره. فبأي معنى يمكن الحديث اليوم عن دور المدرسة المغربية في تكريس السلوك المواطناتي والسلوك المدني؟ وهل تستطيع المدرسة اليوم رغم كل الإكراهات أن تستعيد دورها التربوي الأول لغرس قيم أخلاقية مواطناتية وحديثة، تؤسس لمفهوم وجداني جديد لنموذج المواطن الذي ننشده؟ وإلى أي حد توفقت كل الشعارات التربوية الأخرى في تحقيق نموذج مواطن مغربي قادر ومسؤول، منخرط في مجتمعه ومتشبع  بهويته المغربية ومدرك لحقوقه وواجباته؟
لمحاولة الإجابة عن هذه الأسئلة الكبرى لا بد من أجرأتها من خلال أسئلة وقضايا فرعية: فما موقع رهان التربية على القيم وسلوك المواطنة وحقوق الإنسان اليوم، إذن في فضاء المدرسة المغربية والمناهج المدرسية؟ فهل بمقدور المدرسة الآن أن تصنع مجتمعا حداثيا جديدا، بقيم كونية مواطناتية يحترم هويته وفي نفس الوقت يتفتح فيه على القيم الإنسانية والكونية المشتركة ؟ وكيف يمكن أن تساهم المناهج والمقاربات  البيداغوجية والتصورات التربوية في تربية وتكوين الطفل المواطن ؟
لا شك أنه من الحاجات المجتمعية الملحة اليوم، أن تضطلع المدرسة المغربية بدورها في التنشئة الاجتماعية، باعتبارها مؤسسة للتربية على القيم، عبر مجموعة من الآليات والقنوات التي تنتمي لمنظومة قيمية متكاملة، وتجمع بين مفاهيم الهوية وثقافة حقوق الإنسان وقيم المواطنة والسلوك المدني، بما في ذلك  الالتزام بالحق والواجب والمسؤولية والكرامة والحق في الاختلاف وممارستها بشكل يتوافق ودينامية التحول القيمي الكوني. لذلك فإن المدرسة بحكم طبيعتها التربوية لا يمكن أن تقف محايدة بشكل سلبي لتقبل أو تتواطأ بشكل واع أو غير واع  في تقبل أو ترويج قيم متضاربة عاكسة بذلك التضارب القيمي الحاصل في المجتمع، فالمدرسة المغربية مدعوة للحسم في طبيعة مهمتها التربوية  وخلق انسجام وتوازن وتناغم بين دينامية هذه التحولات ومنظومة القيم التي تلتزم بترسيخها في الناشئة لخلق مجتمع ديموقراطي، منسجم في ذاته، متوازن وديناميكي  منتج متطور ومتفتح على القيم الإنسانية والكونية المشتركة.
تعد المدرسة بهذا المعنى احدى أبرز المؤسسات  الاجتماعية المعنية لبناء نموذج الإنسان المواطن المغربي، من خلال تنمية السلوك المدني والسلوك المواطناتي لدى أفراد المجتمع   وتكريس المواطنة الكاملة، ذالك أن تشبع المتعلم المغربي بهذه القيم الكبرى يكسبه مناعة حقيقية ضد كل أشكال العنف وكل السلوكات السلبية التي تسربت للأسف الى مؤسساتنا التعليمية كظاهرة الغش والتنميط والعنف...لذالك تشكل التربية على القيم والمواطنة والسلوك المدني صمام أمان يحمي أمن واستقرار وتوازن المجتمع، وكان لزاما على المدرسة  أن تنخرط بشكل فاعل في ربح هذا الرهان.
ومن تم يتأكد دور المدرسة في تكوين الحس المواطناتي والسلوك المدني وترسيخ ذلك لأن الغاية المثلى من التربية على القيم وثقافة حقوق الانسان في بعدها الشمولي هي تكوين مواطن متعاقد حول مفاهيم الحرية والكرامة والالتزام بواجباته، ومسهم في الحياة الديمقراطية  لمجتمعه ومنخرط في الانشغالات الكبرى لوطنه، مكستبا للمناعة تجاه السلوكات اللامدنية.
تظل التربية على القيم والمواطنة  مطلبا أساسيا لمدرسة هذا العصر، فالمدرسة تعتبر فضاء  للحوار الحر، وهي تحفز على التفكير النقدي والعقلاني، وعلى تحمل المسؤولية واحترام الآخر، لذلك فإن التربية على المواطنة  تهدف إلى تنوير العقول الناشئة وتغذيتها بقيم الحرية والتسامح والحق والواجب والتشارك، والمساواة، والعدالة والإنصاف، كما يجب أن ينخرط مشروع المؤسسة في هذه العملية التربوية  لخلق تفاعل ايجابي ودينامي  مع الواقع، قصد تعزيز وتنمية السلوكات الإيجابية داخل المجتمع.
وبمقتضى هذه المقاربة القيمية  الجديدة، فإن المدرسة بإمكانها أن تستعيد الثقة في نفسها وخلق مدرسة متصالحة مع ذاتها، مؤهلة فاعلة في التنمية البشرية، أي مدرسة مفعمة بالحياة  وقادرة على تربية ناشئة مغربية  حرة ومسؤولة وخلاقة.
فكيف يمكن تحقق هذا الرهان من خلال الفعل التربوي، حيث إن المدرسة بهذا المعنى لا يمكن فهمها كنواة مستقلة بل باعتبارها بنية مترابطة بمحيطها تتفاعل معه وتؤثر فيه وتتأثر به. وكيف يمكن أن يحقق هذا الخطاب القيمي ويحول إلى ممارسة حقيقية في الفعل التربوي، وعبر أية آليات يمكن ترسيخه كسلوك حقيقي؟
يستمد قلقنا وحرصنا على دور الفعل التربوي في ربح  الرهان القيمي من مشروعيته كسؤال  راهني انطلاقا من  إدراكنا  العميق لجسامة الدور الحقيقي  الذي يمكن أن تلعبه المدرسة في خلق مجتمع مواطناتي ينبني على انسجام قيمي حقيقي منفتح على القيم الإنسانية والكونية المشتركة. ولعل إنجاح المشروع القيمي اليوم، رهين بمدى قناعتنا وإيماننا باعتبار موضوع " التربية على القيم وسلوك المواطنة" تحديا  يقع في صميم الطموحات الحضارية والتربوية التي على المغرب رفعها، في ظل السياق القيمي الكوني الجديد الذي شهده المجتمع الإنساني ككل .
يمكن أن يتحقفق هذا المطمح أولا  عبر منظومة الخطاب باعتباره آلية لنقل القيم عبر المضامين الدراسية التي تحمل ضمن إرساليتها تلك القيم، إذ ينص الميثاق الوطني للتربية والتكوين على ضرورة إعطاء نفس جديد وتصور حديث للتربية  يركز على مدخل القيم. كما أكد المجلس الأعلى للتعليم في تقريره لسنة2006  على المكانة  التي يظطلع بها الموضوع القيمي في  الإصلاح التربوي، باعتبار دوره الحاسم في تعميم المعرفة، وترسيخ قيم المواطنة، كاختيار تربوي حديث  لخلق مدرسة منفتحة ومتجددة باستمرار، ترسخ سلوك المواطنة والمدنية.
كما يمكنه أن يتحقق عبر  آلية المناهج  والبرامج والمضامين الدراسة، فمن خلال استقرائنا لبعض مضامين الكتب المدرسية يمكن القول إجمالا إن التربية على القيم والسلوك المواطناتي حاضرين في مقررات الكتاب المدرسي، سواء بالمرحلة الابتدائية أو الإعدادية أو الثانوية وفي مواد بعينها، كالتربية على المواطنة، ومادة الاجتماعيات التي تسعى الى تربية التلميذ كإنسان مواطن، كما أن انخراط المتعلم الوجداني  والسلوكي في مثل هذا الوعي الحقوقي، هو فعل ايجابي يسمح بأن تمارس تلك الحقوق وأن يؤيديها كقناعات وأن يحترمها كمبادئ كبرى، ذات قيمة يتمثلها في شخصيته وسلوكه الشخصي ليخلق نسيج علاقاته الاجتماعية، وذلك انطلاقا من مقاربة مفاهيم كالتسامح والكرامة والديمقراطية والحريات العامة، والحقوق المدنية، كربط الحق بالواجب، والالتزام باحترام واجباته، والتمسك بحقوقه، وتحمل مسؤوليته بنفسه كفرد وعنصر في مجتمعه.
من المستجدات التربوية الأساسية  الواردة في الوثيقة الإطار بخصوص مكونات وحدة الاجتماعيات، إدراج مادة التربية على المواطنة وذلك بناء على أهمية قيم المواطنة ضمن روح ومنطوق الإصلاح التربوي.  فأهمية هذا المشروع ومنهاج التربية على المواطنة  يمكن إجمالها في أهم الكفايات المرجعية التي تؤسس للمادة وهي ثلاتة:
- اكتساب معارف  وتكوين وتنمية رصيد ثقافي إيجابي يكرس قيم المواطنة الفاعلة، والوعي بمدى إدراك العلاقات المتفاعلة بين الحقوق والواجبات وأشكال التنظيمات الحقوقية والمؤسسات المحلية والإقليمية والاجتماعية التي تسهر على تفعيلها.
-اكتساب منهجية  في اكتساب كيفية التعامل مع المرفق العمومي والمحافظة عليه (الحديقة كفضاء عمومي، استعمال القطار...)، وامتلاك آليات التفكير التي تساعد على التمييز بين قيم المواطنة وحقوق الإنسان وحقوق الطفل، والقدرة على التفكير المنظم وتوظيفه لخدمة الناس والوطن، والتمكن من أشكال التواصل مع المحيط وتوظيفها في التفعيل الإيجابي لمفاهيم المواطنة.
- التشبع بالقيم واتخاذ المواقف، ويتجلى في التحسيس بروح القوانين واحترامها والحرص على تطبيقها في الحياة اليومية، وترجمتها من خلال سلوكات وتبنى مواقف إيجابية اتجاه الذات والمجتمع، تتماشى وقيم المواطنة وحقوق الإنسان. ثم ضرورة احترام المؤسسات المحلية والجهوية والوطنية واحترام الفضاءات  العمومية. وكذا الانخراط في سلوكات بيئية، والانخراط في مؤسسات المجتمع المدني وتعبئة طاقاته لأجل خدمة مصلحة المجتمع. من هنا تتجلى المكانة الأساسية والبارزة التي يحظى بها تدريس التربية على المواطنة وحقوق الانسان في المدرسة المغربية والطموحات التي رسمتها السياسة التعليمية لذلك. ويكتمل إذن ويتوحد التصور المنهجي لمفهوم التربية على المواطنة من خلال امتدادات تربوية تتخللها مجموعة من الأهداف والغايات المتوخاة منها في نهاية تطبيق المنهاج الدراسي.
 بيد أن هذا الطموح لا يمكن أن يتحقق من خلال منهاج دراسي أو مادة تعليمية خاصة، بل  يمتد  إلى مختلف مكونات الحياة المدرسية بما في ذلك بقية المواد الدراسية والأنشطة الموازية والنوادي التربوية، بل وكل السلوكات وأشكال العلاقات التي يعرفها فضاء المؤسسة المدرسية، سواء التي تربط بين المتعلمين قيما بينهم، أو بينهم والطاقم التربوي والإداري والمجالس وجمعيات الأباء والأمهات.
في الأخير، يمكن التأكيد على أن  رهان التربية على المواطنة والسلوك المدني لا ينبغي أن يعمل به كمجرد شعارات موسمية، ومواضيع ظرفية، بل يعد  دعوة حقيقية إلى إعادة الاعتبار للتربية ذاتها، وتكريسا للأغراض السامية المناطة بالمنظومة التعليمية التربوية. هذه الأخيرة التي أضحت على جانب كبير من التعقيد، بحيث تعددت أبعادها ومؤسساتها، فهي تشمل إلى جانب الأسرة، وسائل الإعلام  التي باتت تشكل مصدرا هاما لترويج القيم ونماذج التصرف والسلوك، وتملك سلطانا قويا على تشكيل العقول والنفسيات ذلك أن تنمية القيم وسلوك المواطنة لا يجب أن يلقى على كاهل المنظومات التربية فحسب، بل يجب أن تتضافر جهود عدة أطراف كهيئات  المجتمع المدني إلى جانب الأسرة والإعلام، وكذا المؤسسات والجمعيات ذات الوظائف التربوية  والثقافية والتأطيرية. مما يستدعي اليوم ضرورة انخراط الكل في إرساء صيغ مؤسساتية مستديمة للشراكة والتعاقد، والتنسيق من أجل إنجاح برامج تربوية  وثقافية هادفة، وخلق فضاءات ترفيهية تستجيب للاحتياجات النفسية والذاتية، والتنفيس عن الطاقاته السلبية، وتوجيهها لتهذيبها من خلال أنشطة تربوية  واجتماعية وثقافية. هذا، لخلق فرص يعبر خلالها الطفل والمراهق عن ذاته ويمارس وجوده  بحرية، كما يتحرر عقله وذاته وطاقاته بشكل إيجابي ويتناغم مع محيطه ويتفاعل مع مجتمعه بطرق خلاقة، ويشارك في بناء ذاته  وينسجم مع قواعد وقوانين مجتمعه ككائن مسؤول حر يلتزم بأداء واجباته، ويتمتع بحقوقه في إطار المواطنة الكاملة.

* أستاذة بمدرسة بئرا نزران، تكوين، أكادير.
google-playkhamsatmostaqltradent