نزعة التغيب المدرسي


من الطبعي أن يضطر المتعلم إلى الغياب، لأسباب  صحية أو لظروف اجتماعية،  وما إلى ذلك من الأسباب المسوغة، وعندئذ ما عليه إلا تبرير غيابه، ليؤذن له بالدخول لاستئناف تحصيله الدراسي. غير أن هذا الغياب قد يتحول لدى فئة من المتعلمين والمتعلمات من سلوك طارئ عابر إلى ميول متأصل، وهذا ما يصطلح عليه بنزعة التغيب المدرسي.
         فما الذي تعنيه هذه النزعة؟ وما هي مظاهرها؟ وما هي مسبباتها؟ وما هي آثارها؟ تلكم هي الأسئلة المركزية التي سنحاول الإجابة عليها قدر الإمكان الذي يسمح به هذا المقام في هذا المقال.
 نزعة التغيب المدرسي، وكما تعرفها المعاجم التربوية، التي قيض لنا الإطلاع عليها، هي ذلك الميل الإرادي إلى التغيب عن المدرسة، لأسباب اجتماعية أو نفسية أو إدارية. وإذا كان هذا التعريف يعتبر هذه النزعة ميلا إراديا، أي جنوحا اختياريا وغير اضطراري، فإنه يعزيها إلى أسباب موضوعية متباينة.
ويعرف التلاميذ النزّاعون إلى التغيب بترددهم الدائم على مكاتب الغياب، وبطاقاتهم الملأى بالعلامات، وأرقامهم المسجلة باستمرار على أوراق ضبط الغياب. ولتبرير غيابهم نجدهم يتفننون في التماس مختلف الأعذار، ويبرعون في اختلاق غرائب التعلات، بل إن منهم من يعمد إلى أساليب ملتوية، ويسلك مسالك غير آمنة ليجعل من نزعته هاته حقا مكتسبا، وأمرا واقعا ومفروضا لامناص من الاستسلام له، وبدل أن يذعن هو لضوابط المدرسة وقوانينها، يحاول إخضاعها لمزاجه.
ومن المظاهر المثيرة في هذه الظاهرة أن بعض التلاميذ الجانحين إلى التغيب لا يحضرون حصصا دراسية محددة، أو أياما معينة، ويتعمدون الغياب في مواد بعينها، أو لدى أساتذة لذاتهم،  بل وأكثر من ذلك قد لا يحضر بعضهم إلا بين الفينة والأخرى، وفي حصص الاختبارات، وأيام الامتحانات الإشهادية بخاصة، مستغلين مرونة الإدارة وتساهلها. ومما يبعث على التحير والاستغراب هو أن بعض المتغيبين، يحضرون إلى المؤسسة في مواعيد الدخول ومحافظهم على الأكتاف أو الظهور، لكنهم لا يلجون الفصول الدراسية، بل يمكثون داخل المؤسسة، أو يقبعون في محيطها إلى حين مواقيت الخروج ليغادروها كأي متعلم مواظب منضبط.
لا شك أن التغيب المدرسي قبل أن يتحول لدى الميالين إليه إلى نزعة متجذرة، فإنهم عادة ما يبدؤون بغياب الحصة والحصتين، لينتقلوا بعد ذلك  تدريجيا إلى غياب الأيام، ثم الأسابيع حتى لا نقول الشهور، ليصير لديهم التغيب هو القاعدة، والحضور هو الاستثناء. على أن هذه النزعة، وإن كانت في الظاهر ميولا تحركه إرادة المتعلم، فإن جملة من الأسباب تقف وراءها، وقد صنفت هذه الأسباب في التعريف الذي اعتمدناه إلى ثلاثة أسباب:
ـ اجتماعية: مثل ضعف مستوى الأسرة؛
ـ نفسية: مثل الإحساس بإحباط أو انعزال؛
ـ إدارية: موقف الوسط الإداري وتعامله.
ومن الواضح أن هذه الأسباب ذكرت في سياق هذا التعريف على سبيل الإجمال والتمثيل أيضا، غير أننا نضيف إليها الأسباب التربوية، وهي أسباب جوهرية في تقديرنا، ذلك أن التلميذ عندما يجد صعوبة في الاندماج في مسلسل التعلم، ويعجز عن مجاراة وتيرته، ومسايرة إيقاعه، ينحى إلى الهامش، فيضمحل لديه الدافع إلى التعلم، ويستسلم للفشل، ويتولد لديه الإحساس بأنه مقصي، وخارج تماما عن تغطية التعليم، فيوثر حينئذ الغياب على الحضور، ليصبح هدفه النهائي هو الانتساب الشكلي إلى المدرسة، إرضاء للأسرة، أو حفاظا على الاعتبار أمام الأقران، أو ليبقي لنفسه صفة التلميذ النظامي مؤجلا ما أمكنه صفة الانقطاع والفصل.
        إن التلميذ الذي يسقط في براثن هذه النزعة، ينتهي به الأمر في الغالب إلى عاقبة متوقعة، ألا وهي الانقطاع عن الدراسة، علما بأن هذا الانقطاع قد يكون في سن مبكرة. وفي غياب فرص حقيقية لإعادة الإدماج في مسار تعلم لائق ومكيف مع الميل والوتيرة والاستعداد والمنوال، ينخرط البعض في العمل،  وينسى المدرسة التي غادرها طوعا وكرها، فيما يستبد بالبعض الحنين إليها، فيتردد على محيطها، وقد يستغفل ويتحايل لولوجها، وتزجية أويقات مسروقة  فيها.
        إن الفقر والحاجة، واضطراب الأحوال الأسرية، والتدبير الإداري المختل لظاهرة الغياب، وانعدام التواصل بين الأسرة والمدرسة، كلها عوامل قد تتكاثف لتغذية نزعة التغيب المدرسي، غير أننا وكما ألمحنا آنفا فإن الأسباب التربوية، تظل حاسمة في كثير من الأحوال، وعليه، فإن التصدي لهذه النزعة ينبغي أن يكون تربويا في المقام الأول،  وعملا بالشعار المستعار من المجال الصحي: "الوقاية خير من العلاج" ،فإن التدخل يجب أن يكون استباقيا، أي قبل استفحال هذه الظارة  وتحولها  إلى نزعة  تؤدي  إلى أوخم العواقب.
عبد الله زروال
google-playkhamsatmostaqltradent