الاثنين 24 مارس 2014 - 00:00
في الخامس والعشرين من شهر مارس سنة 1933، نزل عسُّو أُوباسْلاَم (وسط الصورة) من جبل بوكافر. وكان عمره حينها 43 سنة ليُمَثّل مقاتلي بوكافر في توقيع معاهدة الهدنة، إعلانا لانتصار ما كانت فرنسا تسميه " التهدئة" في الجنوب الشرقي.
يتيم الأبوين بعد مقتل أبيه في قضية ثأر بين عائلته وعائلة أَيتْ فُلّ بتَاغْيَا نِيلْمْشَانْ، عاش عسّو رفقة إخوته: لحسن ، إبراهيم ، تْلا و خيرة. رجل "ذو قامة ضخمة، ونظر نفّاذ.
عينان صغيرتان سوداوان برّاقتان ماكرتان، تظهران وكأنهما تسحرانك. يعرج برجله اليسرى نتيجة إصابته بجرح في المعركة. يتكلم قليلا، لكن كلامه كان مدعما بالحجج والبراهين" يقول عنه القبطان مونت دو ماساڤ.
لم يتخلص الرجل من بندقيته حينها كما أمره بذلك الجنرال الفرنسي هوري Huré ، لكنه ورفاقه كانوا يرفعون أيديهم نحو الأعلى إيذانا بالاستسلام.
في تلك اللحظة أخذ فرنسي آلة تصوير، وبدأ يضبط عدستها نحو عسّو ورفاقه ليلتقط صورة تؤرخ لصف من الرجال يضعون أسلحتهم قرب ضريح خويا إبراهيم في منخفض إمساعدن. وفي لمح البصر أدار عسو وباسلام بندقيته (بُوشفر) تجاه صاحب الآلة العجيبة، وكذلك فعل سبعة من رفاقه ممن ما يزالون يحتفظون بأسلحتهم.
أغلبُ الظن أن بُندقية عسُّو أُوباسْلاَم كانت فارغة من الرصاصات. وستكون غير ذي نفع مهما امتلأت بالبارود، مادام المفاوضون محاصرين من كل جانب، واستنفذوا كل قواهم وقد بلغ بهم التعب والجوع أيما مبلغ خلال 42 يوما الأخيرة من القصف والحصار. المدفعية الفرنسية لم تكن تتوقف عن القصف ليل نهار منذ 28 فبراير تاريخ مقتل الرجل الأحمر هانري دو بورنازيل.
لكن عسّو ورفاقه يصرون على التحدي مهما بدا متهورا..صاح الجنرال هوري وترجم الشاوش حميدة الدمناتي كلامه مخاطبا عسّو :
ـ "يا أوباسلام؟ أ ما تزال تصر على المواجهة والقتال؟ وليس من شيم المسلمين الغدر والخيانة. "
ـ "رجُلكم هذا ( وأشار لحامل آلة التصوير) هو الذي بدأ بتصويب سلاحه تجاهنا، ولا يمكن أن نبقى مكتوفي الأيدي ولو كلّفنا الأمر حياتنا. "
ثم التفت إلى الشيخ "علي أوحدى" شيخ الرڭ وأحد المتعاونين مع الجيش الفرنسي. ( تم عقد لقاء بين عسو وعلي وحدا يوم 5 مارس انتهى بتبادل الشتائم دون أن يفضي إلى وقف إطلاق النار) وخاطبه:
ــ " قل للجنرال هوري أن كلمتي بكلمته، ونحن أنداد ".
ضحك الجنرال هوري، وطلب من المترجم أن يخبر عسو أن هذه الآلة سلمية لا تقتل. إنما هي آلة تصوير لتخليد اللحظات التاريخية الباذخة كهذه.
قد يكون عسّو المزداد سنة 1890 بتاغيا نيلمشان أول مرة يرى فيها هذه الآلة العجيبة، لكنه أدرك بحدسه أنها خطيرة مهما طمأنه الجنرال هوري بسلميتها، فهي تُحْيي وتُميت.
أوباسلام، المكلوم بفقدان أهله في حرب بوكافر غير المتكافئة، كان ميّالا إلى قبول الهدنة حقنا لمزيد من الدماء التي سالت في الأيام الـ42 الأخيرة،. رغم ما لاقاه من معارضة شديدة من الرجال والنساء الذين تأثروا بفقدان ذويهم في هذه المعركة، والذين كانوا يرون أن توقيع الهدنة دون النصر إهانة وخيانة عظيمة لكل الأرواح التي أزهقتها الطائرات الحربية والمدافع الذي لم تكن ترحم إنساً ولا بهيمة.
ومع ذلك فقد رضخ عسو لذلك الصوت الداخلي الذي يخاطبه من أعماقه " المزيد من القتال ليس سوى انتحارا يائسا، وقد آن الأوان لتكف فرنسا عن ترميل المزيد من النساء وتيتيم المزيد من الأبناء "..
القوى لم تكن متكافئة، والحرب لم تكن مشروعة. ماذا تريد فرنسا من بَدوٍ يحتمون بالجبل رفقة عائلاتهم ومواشيهم؟ ولما يتم استعمال طرق غير إنسانية كتفخيخ الدواب واستهداف مصادر الماء وقصف الأطفال والشيوخ بشكل ارتجالي لخلق المزيد من الذعر وإجبار المقاومين على الاستسلام.
ورغم المعارضة الشديدة والتخوين الذي تعرض له زعيم قبائل أيت عطا أثناء قراره توقيع الهدنة مع فرنسا ووقف إطلاق النار، خاصة من طرف النساء، حتى أن امرأة غضبى فقدت جُلّ أهلها خاطبت زعيم القبيلة شعريا:
ـ " عندما صعدنا الجبل كان النبي يَتَقدّمُنَا، وعندما نزلنا من الجبل تركنا النّبي هناك".
مع ذلك فإن الزعيم عسّو وْ باسلام فرض شروطا مهمة على المستعمر الفرنسي ، نذكر منها " عدم تجريد القبائل من أسلحتهم إلا عن طوع، ثم عدم حضور نساء أيت عطا للاحتفالات التي يقيمها الكلاوي ورجال المخزن. رفض نفوذ الكلاوي على المنطقة الفرنسي وأن تضرب فرنسا صفحا على ما مضى في الحرب بين الطرفين وغير ذلك.."
الذين يعرفون عسّو عن قرب قبل الحرب، يعرفون أن صُدفة ما هي التي جعلته زعيما، خاصة وأن هناك من هو أفضل منه وأجدر بقيادة المرحلة، لكن مع ذلك لا أحد يستطيع أن يُنكر أنه لم يكن قائدا عن بُعد، أو شخصا يُحرّض المغاربة على قتال الفرنسيين من مكتب وثير بعيدا عن ساحة الوغى، بل شارك في المعركة رفقة أسرته كلها، ولم تضع الحرب أوزارها حتى فقد أربعة أفراد من أقاربه : زوجته، أخوه إبراهيم أُوعْلي، ابنته ذات 13 سنة التي قُتلت قرب عين الماء، وابنه من زوجته الأخرى.
انتُخِبَ ربيع 1919 شيخا لقبيلة إلمشان، ثم عُيّن بعدها بسنة شيخا عاما لكل أيت عطّا، وهو منصب (وإن كان مجردًا من أي بروتوكولية) يمثل أعلى سلطة في اتحادية أيت عطا.
بعد حرب بوكافر تم تعيينه في مهمة رسمية بالمحكمة العرفية لإغرم أمازدار، ثم قائدا سنة 1939.
بعد حرب بوكافر تم تعيينه في مهمة رسمية بالمحكمة العرفية لإغرم أمازدار، ثم قائدا سنة 1939.
ثم إعادة تعيينه قائدا غداة الإستقلال(1956). وكانت حينها " تَاقْيّاديت" أكبر طموح يمكن أن يفكر فيه بَدْوٌ لا يفكرون في سلطات تتجاوز مسقط رأسهم.
كان الاستقبال الذي حظي به من طرف السلطان محمد الخامس سنة 1957، شرفا ظل عسُّو يُفاخر به المناوئين لشرعيته التي اكتسبها في معركة بوكافر إلى أن وافته المنية يوم الـ16 من غشت سنة 1960، لِيُوارى الثرى في مقبرة إِغرم أَمَازدَار عن عمر يناهز 73 سنة.. هناك في قرية نائية في قلب صاغرو، قرية كانت في سالف الأزمان، أَهمّ مكان في تاريخ الاتحادية المُنحلّة.