بكل ما يجب لمقام جلالتكم من احترام، و ما يجب من تقدير و إجلال لمجهودات جلالتكم في إصلاح أحوال البلاد و الشعب منذ اعتلاء جلالتكم العرش، أستسمح جلالتكم في أن أخاطبكم من موقعي كمواطن مغربي بسيط في موضوع إصلاح التعليم، و لا سيما إصلاح التعليم العمومي.
فقد تابعت خطاب جلالتكم الموجه إلى الأمة يوم 20 غشت من السنة التي نودعها، بمناسبة ذكرى ثورة الملك و الشعب، و الذي أكدت فيه جلالتكم على ضرورة تخويل المنظومة التعليمية لأبنائنا “الحق في الاستفادة من تعليم موفور الجدوى والجاذبية٬ وملائم للحياة التي تنتظرهم”، و كذا على ضرورة “تمكين الشباب من تطوير ملكاتهم٬ واستثمار طاقاتهم الإبداعية٬ وتنمية شخصيتهم للنهوض بواجبات المواطنة٬ في مناخ من الكرامة وتكافؤ الفرص٬ والمساهمة في التنمية الاقتصادية والاجتماعية والثقافية”.
و قد شاءت الظروف أن يتصادف خطاب جلالتكم هذا مع التحاقي بسلك التعليم كأستاذ متدرب لمادة الفلسفة بالثانوي التأهيلي. و هو ما مكنني من الاطلاع عن كثب على واقع المدرسة العمومية بالسلك المذكور، بعد أن كان اهتمامي بالموضوع لا يتعدى المواكبة الإعلامية من خارج المنظومة التربوية، من موقعي كمشتغل بالإعلام. و من خلال معايشتي الميدانية حتى الآن لواقع المدرسة العمومية أصبح يؤرقني سؤال حيوي: هل من الممكن، بالفعل، أن ينجح أي مشروع للإصلاح في ظل الكسل البيروقراطي، و التردي المعرفي و البيداغوجي، و التعامل مع المتعلمين بناء على تمثلات و أحكام مسبقة تنطلق، مبدئيا، من كون التلميذ المغربي كائنا ذا قدرات عقلية أقل من نظرائه عبر العالم، و أقل من الأجيال السابقة؟ و هل يمكن لمثل هذه العقلية و هي السائدة مع الأسف الشديد أن تقدم تعليماً “موفور الجدوى و الجاذبية”، يمكن “الشباب من تطوير ملكاتهم، و استثمار طاقاتهم الإبداعية”؟
إن تطوير ملكات الشباب يقتضي أولا أن ننطلق من أنه شباب ذو مَلَكات، كما أن استثمار الطاقات الإبداعية للشباب يفترض الانطلاق من الاعتراف بامتلاك هذا الشباب لطاقات إبداعية. و الحال أن النظرة السائدة عموما للتلميذ المغربي، في ما عاينته و عشته حتى الآن، هي أنه كائن بدون قدرات و بدون طاقات إبداعية، لا مبال نهائيا بالتحصيل المعرفي، أي أنها نظرة دونية تستصغر المتعلم و تحط مسبقا من قدراته و إمكاناته، و تتخذه مجالا لتجريب أساليب الإهانة و الحط من الكرامة، و التنفيس عن بعض المكبوتات لدى فئة من المدرسين.
و مع الإقرار بوجود مدرسين أكفاء، نزهاء، غيورين على وطنهم و شعبهم، مستعدين للتضحية بكل ما يملكون لتكوين نساء و رجال الغد، ينبغي الاعتراف أيضا بأن هذه الفئة من نساء و رجال التعليم تعاني بدورها الاضطهاد، و الإقصاء، و التهميش، و المضايقات، من طرف لوبيات البيروقراطية السلبية، و كارتيلات المتاجرة في الكتب المدرسية، و عديمي الكفاءة و الحس المهني و الوطني. فالكفاءة، و النزاهة، و الجدية، و الالتزام، هي اليوم قيم تُحَارَب داخل تعليمنا العمومي من طرف جماعات الكسالى، و الجَهَلَة، و الذين لا ضمير لهم. و المعرفة، و البحث، و توخي الدقة في ما يُصرف إلى المتعلمين، و تثمين المتعلم، هي اليوم قيم غريبة في فضاء المدرسة العمومية و لا تجلب على صاحبتها أو صاحبها إلا النقمة و الانتقام. و لذلك، لا غرابة على الإطلاق في أن يتدنى تعليمنا، العمومي و الخاص على حد سواء، إلى نفس المرتبة مع دول كانت، بالأمس القريب فقط، تعتبر الشهادات المغربية معادلة لنظيرتها الفرنسية و ترسل طلبتها للتكوين في بلادنا. بل لا غرابة على الإطلاق في أن نجد أنفسنا مستقبلا مصنفين في تقارير الهيئات الدولية خلف هذه الدول. و كيف لا و قد بلغنا الحد الذي يُقال فيه لتلاميذ السنة الثانية من الباكالوريا بأن جاليلي أعدمته الكنيسة، بينما سيجد هؤلاء التلاميذ أنفسهم أمام موسوعة “ويكيبيديا” في مساء نفس اليوم التي تقول لهم إن جاليلي لم يعدمه أحد؟ و كيف لا و قد بلغنا الحد الذي يُقال فيه لتلاميذ نفس المستوى الدراسي بأن المغاربة هم أول من توصل إلى تقنية الاستنساخ التي بواسطتها أنتجوا فاكهة “الشهدية”، و أن العالم المتقدم أخذ عنا هذه التقنية لاحقا و طبقها في استنساخ الحيوانات؟ و كيف لا وقد أصبح يُقال للتلميذ “Proportions de fromage” عوض “Portions de fromage”؟؟؟؟!!!! بل، كيف لا حين نكون أمام كتاب مدرسي يترجم كلمة l'homme من نص لسارتر ب”الرجل” بينما سارتر يقصد الإنسان؟ و كيف لا و التلميذ حين يطلب تفسير كلمة “اللاهوت” يأتيه الجواب بأنه “مجموعة من الأفكار الصنمية و الجامدة”؟ (هكذا!!!)
لعل المنطق يقضي بأن ينصب الإصلاح أولا على تحرير المدرسة العمومية من قبضة لوبيات الجمود البيروقراطي، و الرداءة، و المتاجرة في الكتب المدرسية، و تثمين الكفاءة و الجدية و المعرفة، و تحفيز البحث، و ربط الترقية بالجودة و المردودية.
فمع الإيمان بمشروعية مطالب الشغيلة التعليمية، ينبغي أن نؤمن كذلك ألا مشروعية على الإطلاق لمطالب الجهل المُركب، و الكسل، و عدم الالتزام لأننا حين نجازي الكسالى و الجاهلين و قناصة الامتيازات لا نفعل أكثر من إحباط و معاقبة الأكفاء و النزهاء بطريقة غير مباشرة. فما أن تم الإعلان عن مشروع الإصلاح الجديد حتى ثارت ثائرة اللوبيات المعهودة لتطالب ب”المقاربة التشاركية” و التي لا تفهم منها تلك اللوبيات إلا إشراكها في الاعتمادات المالية المخصصة لمشروع الإصلاح، إذ وحدها الأموال العامة تثير شهية أولئك المتعطشين إلى تكديس الثروة على حساب المرفق العام.
و لعل مكاشفة الذات تستوجب منا الاعتراف بأن الذي أفشل كل محاولات إصلاح التعليم (و لا سيما العمومي) منذ 1998 حتى الآن هو سطوة هذه اللوبيات التي هي أصل الفساد و منبعه و لا يمكن، بالنتيجة، أن تكون مساهمة في أي إصلاح مهما كان بسيطا.
و لتتقبل جلالتكم كل المحبة و الإخلاص.
عبد الرحيم الوالينشر في تازة اليوم وغدا يوم 27 - 12 - 2012