لا شك أن التربية موضوع خصب شغل الفلاسفة و المهتمين بالشأن التربوي ،و ظل منذ القدم محط خلاف و تجاذب فكري بين مختلف العلماء و التيارات و التوجهات الفكرية و الفلسفية شأنه في ذلك شأن باقي المواضع التي تنتمي إلى العلوم الإنسانية التي تقارب عادة بمنطق نسبية الحقيقة ،و باعتبارها ظاهرة لصيقة بالإنسان فقد وفيت حقها كميا على الأقل من البحث و التمحيص و النقد و تكونت مدارس فكرية متعددة حاولت و لازالت تحاول أن تبلور تصورات حول مكانة الإنسان داخل المجتمع و ماهية التربية في ظل التحولات الاجتماعية و الثقافية و المعرفية وعن القيم و الاتجاهات التي نريد تمريرها للناشئة و عن النظم و الطرائق المنهجية للتعليم و غيرها من المواضع ذات الصلة بالتربية ،و لعل الطبيعة الفلسفية لهذه المواضع جعلتها من صلب اهتمامات الفلسفة بكل أطيافها و تخصيص لها فرعا فلسفيا يدعى فلسفة التربية (حديث التكوين بالمقارنة مع الفلسفة ذاتها ومع بعض العلوم الأخرى المرتبطة بالتربية)يتخذ التربية موضوعا له و يقاربها فلسفيا و ابستومولوجيا و مفاهيميا و إجرائيا.
إن فلسفة المجتمع تبحث عن فهم عميق لحياة أفضل للإنسان و تقديم التصورات والغايات و المثل العامة حولها عن طريق فلسفة التربية التي تضمن عادة استمرارية القيم و المعتقدات الفكرية و الايدولوجيا للطبقة السياسية و تحدد الملامح الشخصية المراد توفرها في الإنسان مستقبلا ،مما يدل على أهمية و خطورة فلسفة التربية في البناء المجتمعي ثقافيا و علميا و سياسيا و فكريا و دورها في إصلاح المنظومة التعليمية و الاجابة عن تساؤلات راهنة تمس البنية الفكرية و الأخلاقية للمجتمع حيث أضحت مدخلا أساسيا للتغيير و الخروج من الازمة التي نعيشها ،فما هو دور فلسفة التربية في إصلاح المنظومة التعليمية ʕو كيف تساهم في بناء مجتمع عصري متقدمʕ
يمكن القول جزما أن المنظومة التربوية الوطنية تعيش أزمة مركبة تتفاقم و وضعيتها يوما بعد يوم رغم المشاريع الإصلاحية المتتابعة و التي طغى عليها الطابع المنهجي و الإجرائي و إغفال البحث و التنقيب عن أساليب التدبير المتوازن يوفق بين الغايات العامة للمجتمع و الوضعية الحالية كمنطلق للتخطيط مع أخذ بعين الاعتبار المتغيرات الفكرية و الاجتماعية و الثقافية و الحقوقية بناء على مقاربة نقدية لذات المجتمع بالمقارنة مع إنجازات الأمم الأخرى ،مما يلح على ضرورة إحياء دور فلسفة التربية ،ذلك الوعاء الفكري و التنظيري المرشد للسياسات التربوية من خلال طرح الاشكالات المجتمعية في علاقتها بالنمو المعرفي و العلمي و التأصيل القيمي و التشبع بروح الانفتاح على الاخر و احترام التعدد الثقافي و اللغوي و تطوير ملكات النقد و البحث العلمي ،هذه الاشكالات المتنوعة باتت تؤرق مضجع المجتمع و تشكل تحديات حقيقية أمام السياسيين و المثقفين و الفلاسفة والمهتمين بالتربية.
بشكل عام تتمحور اهتمامات فلسفة التربية حول طبيعة الإنسان نفسه باعتباره المستهدف في علاقته بطبيعة الحياة التي ينبغي أن تفضي إليها التربية و بطبيعة المجتمع لكون التربية سيرورة اجتماعية وبطبيعة الحقيقة التي تروم المعرفة النفاذ إليها ،و من هذا المنطلق يمكن أن تتبلور و تتضح الرؤيا حول مفهوم فلسفة التربية و دورها في التوفيق بين مختلف العلوم المرتبطة بالتربية وبناء تصور عام يكون بوصلة يحدد وجهة المخططات التربوية لخدمة المصالح العليا للمجتمع و ليس لطبقة بعينها ،لهذا ففلسفة التربية مطالبة من خلال المختصين بإعادة قراءة جديدة لمفاهيمها و مواضيع اهتماماتها في ظل المتغيرات الحديثة و إعداد تصور شامل و متكامل يتخذ العلم و العقل ركيزتين أساسيتين و يهدف إلى تكوين مواطن قادر على تجاوز المثبطات الداخلية و الخارجية و تحقيق تصالح المغربي مع ذاته الحضارية و التاريخية و الهوياتية و الاعتزاز بها ،من خلال تناول هذا الفرع الفلسفي لمواضع و إشكالات معاصرة بعقلية نقدية و موضوعية.
إذا كانت فلسفة التربية تعوزها الموضوعية و التجرد من الخلفيات الاديولوجية
الفكرية في العقود السابقة فإنها اليوم تنعم بانفتاح نسبي يؤهلها لإعادة صياغة تساؤلاتها و أولوياتها و العمل على:
_تبوئ الفكر العلمي مكانة ريادية في السياسية التربوية لأهميته الكبيرة في التأصيل لمرجعية مجتمعية متقدمة تتعامل مع كل المستجدات بنوع من النقد و التمحيص قبل استدماجها و إضفاء عليها الشرعية ،و يعلمنا هذا المبدأ مثلا احترام التخصص العلمي إسناد الأمور إلى أهلها ،والتيقن قبل إصدار الاحكام ،و نبذ نشر الإشاعات مجهولة المصدر،و التعامل بمنطق الأفعال و ليس ردود الأفعال ،و يوفر علينا الوقت الذي نصرفه في نقاشات عقيمة لا تسمن و لا تغني ،و يعلمنا كيف نخطط للمستقبل و نثير مواضيع استراتيجية و مصيرية تهم المصلحة المشتركة ،فالتفكير العلمي يعد وقاية و معالجة لقضايا اجتماعية و فكرية و ثقافية أرهقت كل المحاولات الاصلاحية و ساهمت في استفحال التخلف.
_بناء الثقة لدى الانسان المغربي في نفسه أولا و ثم في ثقافته و هويته و انتمائه مما سيقوي حتما الضمير الجمعي للمجتمع دون السقوط في الاعتزاز الاجوف و الاعمى و الانغلاق حول الذات،إن الثقة التي أتحدث عنها لا يمكن ترسيخها بالشعارات و الكلام المعسول مما قد ينجم عنه انفصام الشخصية لاختلاف المعاش عن المأمول،بل يجب ان توازيها إصلاحات حقوقية و اقتصادية تلامس اثارها على أرض الواقع ،ففقدان الثقة بالمفهوم الذي أثرته يغذي الشعور بالانهزامية النفسية و يشجع على تبادل الاتهامات بين الطبقات و الانتماءات الثقافية حول المسؤول عن تخلفنا و يتم ذلك بعيدا عن مقاربات منهجية علمية تتغي الحقيقة دون خلفيات و نوايا مبيتة.
_ضرورة ترسيخ لثقافة الاختلاف و احترام الاخر،و تتجلى أهمية هذا المبدأ خاصة في المستجدات السياسة و ما أتى به الدستور من تغييرات جوهرية و التنصيص على التنوع اللغوي و الثقافي للمغرب و ترسيم اللغة الأمازيغية ،و رغم أن هذا المستجد السياسي المتأخر قد حسم مسألة كانت إلى وقت قريب محط تجاذب إيديولوجي و فكري بين دعاة الاعتراف بالثقافة الامازيغية و رواد إيديولوجية تمتهن الإقصاء و نفي الاخر فإن يعض الكتابات لازالت تنبش في الموضوع و تضييع الوقت و الجهد في أمور حسمت من كل الجوانب ،تؤدي ثقافة احترام التعدد(اللغوي و الثقافي)إلى غنى و قوة محفزة المضي قدما نحو الرقي و التطور.
تعد فلسفة التربية الأصل و المرجع لكل إصلاح جدي عن طريق إثارتها لمواضيع تهم مصير العملية التعليمية و بالتالي مصير الإنسان و مصير الحضارة و الثقافة المغربية بخصوصياتها و تنوعها ،مما يحتم ضرورة الاهتمام بها و إعطاءها الأولية في الدراسات و الأبحاث العلمية و جعلها مصدرا ينهل منه القائمين على المجال التربوي.
ادريس رابح