تطور الرأسمالية ونتائجه خلال القرن التاسع عشر
مقدمة: عرفت أوربا الغربية تحولات اقتصادية وتقنية خلال القرن 18، مما ساعد على تطور الرأسمالية في القرن 19 بأوربا الغربية وأمريكا الشمالية؛ حيث تحولت من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية مالية. وكانت لذلك التطور نتائج هامة شملت ميادين مختلفة: سياسية وفكرية واقتصادية واجتماعية.
تجلى تطور الرأسمالية في القرن 19 في تطور مختلف القطاعات الاقتصادية.
تطور الصناعة والفلاحة:
في مجال الصناعة:
تطور الانتاج الصناعي نتيجة استعمال الآلة وتطبيق الاختراعا التقنية الجديدة، مما أدى إلى تجديد هياكل الصناعة وظهور صناعات جديدة حيث ظهرت الصناعة الميكانيكية كفرع مستقل، فتطور إنتاج الآلات مما ساعد على تطور الصناعة من يدوية إلى آلية. وظهرت مصانع كبرى لصهر المعادن، فأصبحت الصناعة الثقيلة تحتل المكانة الأولى عوض صناعة النسيج. وارتبط تطور صناعة التعدين بتطور صناعات أخرى كاستخراج المعادن والكيميائية وإنتاج الكهرباء، حيث عرف الثلث الأخير من القرن 19 بعصر الفولاذ. واستمر التطور التقني باختراع أنواع مختلفة من المحركات كمحركات الكهرباء والدييزيل ومحركات الاحتراق الداخلي والتربينات البخارية. واستعملت هذه الآلات بشكل واسع شمل البوادي الأوربية فعرفت تحولات هامة.
في مجال الفلاحة:
ظل الانتاج الفلاحي في معظمه معيشيا تقليديا حتى منتصف القرن19. ثم تطورت الفلاحة نتيجة تدخل الرأسمالية في البوادي وامتداد طرق المواصلات خاصة السكك الحديدية، إضافة إلى أهمية الطلب نتيجة ارتفاع عدد سكان المدن. واتجه الاستغلال الفلاحي نحو الزيادة في الانتاج وتحقيق مردودية مرتفعة باستعمال الآلة ونتائج البحث العلمي والأسمدة وطريقة التناوب الزراعي والتخصص في الانتاج قصد التسويق. وتطلب ذلك التحول استثمارات مالية هامة، مما أدى إلى التركيز الرأسمالي في مجال الفلاحة. وأصبحت معظم الأراضي في يد الملاك الكبار البرجوازيون، والنبلاء الذين استوعبوا التطورات الجديدة، في حين اختفى الفلاحون الصغار تقريبا، وتقلصت نسبة اليد العاملة في الفلاحة بسبب استعمال الآلة. ونشطت الهجرة القروية نحو المدن لتوفر طرق المواصلات. وتخصصت بعض المناطق والدول في إنتاج معين مثل القمح بالولايات المتحدة وكندا وروسيا، والصوف بأستراليا و الأرجنتين. كما تراجعت بعض المزروعات) النباتات الزيتية ( أمام تربية الأبقار المنتجة للحليب واللحوم قصد تلبية حاجيات المدن. واهتمت بعض الشركات الفلاحية باستغلال المستعمرات خاصة بالنسبة للمنتجات المدارية.
المواصلات والمبادلات التجارية:
ارتبط تطور المواصلات البرية والنهرية والبحرية بتطور الصناعة، نظرا لحاجتها إلى الأسواق والمواد الأولية ومصادر الطاقة. وتطلب ذلك تعبيد الطرق وحفر قنوات ملاحية للربط بين الأنهار الصالحة للملاحة. لكن السكة الحديدية كانت رمزا للثورة الصناعية؛ اكتشفت بإنجلترا على يد جورج ستيفنسن، وانتشر استعمالها في باقي أوربا الغربية والولايات المتحدة ) خريطة ص.16 ( مما أدى إلى تخفيض تكاليف النقل والمدة الزمنية للتنقل بين المناطق. وتطورت الملاحة البحرية بحفر قنوات جديدة مثل السويس و باناما، واستعمل الحديد والآلة البخارية في صناعة السفن الكبرى. وظهرت موانئ كبرى مثل لندن ونيويورك وروتردام، كما ظهرت شركات ملاحية كبرى.
وبعد اختراع محركات البنزين والعجلات المطاطية، ظهرت السيارات في 1895. كما ظهرت وسائل أخرى في أواخر القرن 19 كالدراجة العادية والنارية والتلغراف والهاتف والصحف ووكالات الأنباء.
وساعدت وسائل المواصلات على تطور المبادلات التجارية، حيث مكنت الصناعة من تصريف الانتاج والحصول على المواد الأولية ومصادر الطاقة. واتسع حجم المبادلات العالمية وظهرت البورصات وزادت حدة التنافس التجاري، مما دفع بعض الدول إلى فرض الحماية الجمركية. ولعبت الأبناك دورا هاما في تطوير القطاعات الاقتصادية حيث وظفت أموالها في المؤسسات التجارية والصناعية وفي المضاربات البورصوية، إضافة إلى القروض. واستفادت الأبناك من نمو الكتلة النقدية بعد اكتشاف الذهب في كاليفورنيا و أستراليا، وإصدار الأوراق النقدية واستعمال الشيكات.
خلـف تـطـور الـرأسمالـية خـلال الـقـرن 19 نـتائج هـامة.
تطورت الرأسمالية الصناعية إلى رأسمالية مالية:
نتيجة للتركيز الرأسمالي تطورت الشركات من -شركات الأشخاص- عائلية أو لبعض الشركاء إلى -شركات الرساميل- شركات المساهمة أو المجهولة الاسم .وهذا التركيز حتمته ظروف المنافسة من أجل تحسين الجودة وتخفيض تكاليف الانتاج ولتحقيق الأرباح. والتركيز الرأسمالي أنواع؛ فعلى مستوى الانتاج نجد الأفـقي ويتم بين شركات ذات إنتاج متشابه، ويعطي ما يسمى بالكارتيل. ثم العمودي ويتم بإدماج شركات تساهم في إنتاج واحد لتشكيل شركة واحدة، ويعطي ما يسمى بالتروست. وعلى المستوى الملي ظهرت شركات التملك) الهولدينغ ( وهي شركات مالية احتكارية تفرض سيطرتها على المؤسسات البنكية والصناعية بواسطة امتلاك قسم كبير من أسهمها. لذلك سميت رأسمالية القرن 19 بالرأسمالية المالية.
ورغم تطور الاقتصاد الرأسمالي في القرن 19، فإنه تميز بتعرضه للأزمات الدورية الناتجة عن تضخم فائض الانتاج والمبالغة في القروض والمضاربات المالية، مما يؤدي إلى تراجع النشاط الاقتصادي وانتشار البطالة.
النتائج الديمغرافية والفكرية والاجتماعية:
المجال الديمغرافي:
تزايد عدد سكان الدول الرأسمالية منذ مطلع القرن 19 بسبب تطور الفلاحة وتحسن ظروف التغذية، وتطور العلوم الطبية وتحسن الظروف الصحية، فتقلصت نسبة الوفيات وارتفعت نسبة الولادات. وتزامن ارتفاع عدد السكان مع التطورات الاقتصادية، فاصبحوا يلعبون دور المنتج والمستهلك. ونشطت الهجرة القروية نتيجة التحولات التي عرفتها الفلاحة ولتوفر طرق المواصلات، فارتفع عدد سكان المدن، وظهرت المدن الكبرى بمشاكلها الاجتماعية والاقتصادية الناتجة عن الهجرة كالبطالة. وبدا التشجيع على الهجرة الخارجية كحل للمشاكل الداخلية، حيث شملت حوالي 60 مليون أوربي خلال القرن 19. ودعمت بهم أوربا نفوذها في عدة مناطق من العالم.
في المجال الفكري:
تبنت البرجوازية المذهب الليبرالي، وتبنت الطبقة العاملة المذاهب الاشتراكية.
ـ المذهب الليبرالي الكلاسيكي: تأسس على يد أدم سميث في أواخر القرن 18، وطوره كل من مالتوس و ريكاردو خلال القرن 19. وتتلخص مبادئه في الملكية الفردية والحرية الاقتصادية. ويدعو على تحديد النسل لتحقيق التوازن بين النمو الديمغرافي والامكانيات الغذائية، وإلى البحث عن الأسواق لتصريف فائض الانتاج الصناعي.
ـ المذاهب الاشتراكية: بدأت الاشتراكية باتجاهها المثالي ( أو الطوباوي ) خلال القرن 18 على يد سان سيمون و روبرت أوين. ويدعو إلى نظام اجتماعي افضل تتعزز فيه الملكية الجماعية والعمل الجماعي والقضاء على الفقر والاستغلال. ثم تطورت الاشتراكية على يد ماركس و إنجلز خلال القرن 19، وأصبحت تعرف بالاشتراكية العلمية. وتعتبر الصراع الطبقي المحرك الأساسي للتاريخ، ودعت إلى تحقيق المجتمع الاشتراكي.
الجانب الاجتماعي:
ظل المجتمع الرأسمالي طبقيا رغم التحولات التي عرفتها البنية الاجتماعية نتيجة التطورات الاقتصادية. ويتألف من:
ـ الأرستقراطية: التي تراجعت بشكل كبير أمام نمو البرجوازية. لكن بعض السر حافظت على مكانتها لأنها استوعبت التحولات الجديدة، وتصاهرت مع بعض الأسر البرجوازية، وتقلدت مناصب هامة إدارية وعسكرية.
ـ الطبقة البرجوازية: عرفت نموا كبيرا، ويمكن تصنيفها إلى: برجوازية كبيرة، وهي المسيطرة على المجالات الاقتصادية. وبرجوازية متوسطة، يمثلها أصحاب المهن الحرة كالأطباء والصيادلة والمهندسين. وأخيرا البرجوازية الصغيرة، ويمثلها الموظفون والملاك والتجار الصغار والحرفيون المتخصصين.
ـ الطبقة العاملة: أو البروليتاريا، وهي التي تمثل جميع الفئات المستغلة كالحرفيين وعمال البيوت الذين يشتغلون في منازلهم لحساب المقاولين. والعمال المؤهلون تقنيا وغير المؤهلين.
ونتيجة للإستغلال الرأسمالي الذي تعرضت له الطبقة العاملة، دعت الاتجاهات الاشتراكية العمال إلى الإتحاد، لأنهم يشكلون قوة اقتصادية يكمن خطرها في اتحادها، لذلك ظهرت النقابات والاتحادات النقابية( الفيدراليات) واتحادات دولية ( الأممية الأولى بلندن 1864 ). وحققت هذه التنظيمات بعض المطالب الأساسية كتحديد ساعات العمل والحق في العطلة الأسبوعية وحق تأسيس النقابات وتحديد السن القانوني لتشغيل الأطفال ( ما بين 10 و13 سنة ) واعتبار فاتح ماي عيدا للعمال منذ 1890.
التحولات السياسية والاقتصادية في البلدان الرأسمالية:
دفعت التطورات الاقتصادية في الدول الرأسمالية إلى الاهتمام بالمشاكل الاجتماعية وتنظيم الحياة السياسية بوضع قوانين لترسيخ الديمقراطية. وأصبحت الدول الرأسمالية تبحث عن منافذ جديدة لتصريف فائض الانتاج الصناعي واستيراد المواد الغذائية، ولحل المشاكل الاجتماعية الناتجة عن الهجرة القروية والنمو الديمغرافي. وكذلك لحل المشاكل السياسية الناتجة عن الصراعات السياسية والاجتماعية، حيث تطورت الأحزاب القديمة وظهرت أحزاب جديدة والاتحادات العمالية. ولتحقيق ذلك نهجت الدول الرأسمالية سياسة التوسع الامبريالي. وعقدت مجموعة من المؤتمرات للحد من التنافس الاستعماري مثل مؤتمر برلين Conférence de Berlin 1884 ـ 1885، والاتفاق الودي 1904 ومؤتمر الجزيرة الخضراء 1906، ذلك التنافس الذي أدى إلى الحرب العالمية الأولى.
خاتمة: تطورت الرأسمالية في القرن 19 من رأسمالية صناعية إلى رأسمالية مالية، وأصبحت المؤسسات المالية تتحكم في النشاط الاقتصادي والحياة السياسية. وانعكس ذلك التطور بشكل سلبي على الشعوب المستضعفة حيث استهدفها التوسع الامبريالي.