عبد الله العروي: السلطة الملكية ضامن أساسي للاستقرار
هسبريس
كان لابد أن يحتجب عنا المفكر الموسوعي الأستاذ عبد الله العروي حتى يتحفنا بآرائه في السياسة و يعرج بنا عبر دهاليز التاريخ، فالفكرة الواحدة عنده قد تحيلك إلى فصل في كتاب أو بحث أكاديمي وربما تكون لها امتدادات في المنظومة الفكرية التي بنى عليها مشروعه الفكري. و لعلي لا أجانب الصواب اٍذا اعتبرت نصوص العروي، سواء أكاديمية أو إبداعية أو في شكل حوارات، ذات ثقل معنوي في الخطاب الفكري المعاصر وذلك لموقع صاحبها في الجدال الواقع حول الحداثة والتراث.
وكان لابد أن يطل علينا من خلال مجلة تعنى بكل ما هو مغربي، إنه إذن الاختيار الذي يفصح عن كثير من الدلالات والإحالات التي يتقنها ويبدع فيها بشكل مبهر الأستاذ العروي. ولا يهم القالب الذي يضع فيه أفكاره إن كان رواية أو حوارا أو بحثا أكاديميا أو محاضرة، لكن المحتوى الذي يحمل المعنى والعقيدة والإشكالية هو المبتغى. إن ما يقدمه من أفكار ورؤى حول الراهن والآتي مبنية على مقدمات غير قابلة للتجزئة تشكل بناء فكريا متماسكا، فالإطار الموسوعي الذي يؤثث البنية الفكرية للأستاذ يوحي بأفق ثقافي متجانس ومتنوع في الآن نفسه.
يعتبر الأستاذ العروي من المساهمين في عقلنة التنظير للإشكالات الأساسية في تاريخ الفكر العربي الإسلامي وأيضا التعلق بمسار تاريخ العالم، اٍنها التاريخانية إذن التي تعطي للإنسان المجال الذي يتحرك فيه من أجل الإبداع والإنتاج وفق ظروفه الحتمية المتاحة. وهو المدافع عن القطيعة مع التراث وتبني قيم الحداثة بربطه المجتمع الذي يعيش في كنفه بكل ما هو عالمي. فهو يعطي الأولوية للعقل غير المقيد كذا لا يقبل سلطة الماضي على حاضره سواء بالإملاء أو لعب دور الموجه والنموذج. إذن فلحظات التحديث ميزة المجتمعات التاريخية المتغيرة باستمرار والتي تتصارع داخلها وبها المنظومات الفكرية المختلفة منهجا ومرجعية، داخل مناخ من التدافع والخلق والإبداع أو من المحافظة والثبات لضمان واستمرارية وضعية معينة.
في هذا الإطار لابد من استنطاق نص الحوار الذي أدلى به الأستاذ العروي لمجلة – زمان – من أجل محاولة تفكيك بنيته الداخلية من أجل الكشف عن المعاني المؤسسة للذهنية الآنية سياسيا واقتصاديا و ثقافيا، وقراءته للراهن المغربي ومحيطه الجيوسياسي. فلقد أدلى بدلوه بعد تأمل كبير في مستقبل المغرب الكبير والحراك السياسي بالبلد وكذا رؤيته للنظام السياسي بالمغرب على ضوء معطيات تاريخية وموضوعية، وما هي استنتاجاته الكمية والنوعية باعتباره عنوانا للانتنلجنسيا المغربية والعربية؟
إرهاصات المغرب الكبير
لقد تم التئام شمل وزراء خارجية المغرب الكبير في فبراير 2012 بعد سنوات من الغياب المبرر لِبَثِّ الحياة في جسم الإتحاد المغاربي. وصرح رئيس تونس بأن هذه السنة هي عام المغرب العربي الكبير، فهل هناك معطيات موضوعية تلح على السير في هذا المنحى؟ فلقد كانت هناك تجارب قبلية باءت بالفشل وكان الأستاذ عبد الله العروي حاضرا وشاهدا بحكم الموقع الأكاديمي كمؤرخ أو كمبعوث للملك الحسن الثاني لشرح أبعاد وأهداف معاهدة الاتحاد العربي الأفريقي مع ليبيا. وبتمثله للتاريخانية الهادفة إلى كشف قوانين التطور والتغير الاجتماعي وتفهم للتبدلات الحضارية الكبرى يصرح بأن الفكرة والرغبة في إقامة المغرب الكبير لازالت حلما طوباويا إذ لازالت العوامل الذاتية والموضوعية قائمة لنسف أي محاولة هادفة.
فالتجانس الفكري والنفسي وكذلك الطموح السياسي لا يوجد على مستوى القاعدة كشعب و هي الأهم عند العروي من أي ائتلاف نخبوي، زد على هذا ربطه لمستوى الأمية هبوطا وصعودا في تحديد مدى الرغبة في الإتحاد والتجانس مع الآخرين، فكلما زادت الأمية يكون قبول الاٍندماج أكبر والعكس عندما تزداد نسبة التعليم يتم إدراك التميز وتصبح الرغبة في الاندماج أقل، فالرؤية الموحدة لديه لم تكن أبدا اندماجية بل كان يطبعها الأمل والحلم الذي لم يدافع عليه، إذن هنا الأستاذ العروي كان وفيا لأفكاره ومنهجه الواقعي.
حسب متابعتي لإنتاجه الفكري يمكن الجزم بأن إيمانه العميق بالحرية جعله يربط بين امتداد الدولة وشموليتها ونقص هامش الحرية في علاقة جدلية، وبالتالي ينحو منحى المتشائم من الإتحاد بين بلدان المغرب الكبير. فبرغم المشترك اللغوي والعرقي والجغرافي وحتى بتوافر الإرادة السياسية التي عبر عنها الخطاب السياسي عند نخبة ما بعد حراك 2012 فلا اتحاد دون فهم الخصوصية في سياقها التاريخي. إن الاندماجية السياسية بالمفهوم الكلاسيكي لم يحن وقتها الآن، لكن من الممكن الحديث عن مقدمات اقتصادية وتجارية تخلق دينامية معتبرة على مستوى حركة الشخاص والخدمات.
ويبقى إذن الهاجس الذي يحرك عقل عبد الله العروي على هذا المستوى هو مناعة الدولة بإنتاج ثقافة متكاملة مع روح العصر، فالتاريخانية عند العروي تفرض عليه تأمل البدايات والوقوف عندها لتأويل صحيح للدوافع والأهداف وإعطاء الحدث حقه من التدبر واستخلاص الاستنتاجات سابقا ولاحقا. ولابد في نفس السياق من التعريج على مسألة الصحراء المرتبطة عضويا بالمجال الجيوستراتيجي للمغرب الكبير، فالأستاذ العروي يبني خلاصاته على ما أنتجته الظروف النفسية والثقافية داخل الدولة القطرية مع الاحتفاظ باللبنات المكونة لمشروعه الفكري. فالمسيرة الخضراء كانت كمنبه قوي يخترق البنية الثقافية والتركيبة النفسية للمغربي وإحساسه بانتمائه وخصوصيته.
إذن التهديد للوجود الفيزيقي والقومي يرفع من منسوب الاٍنتماء عند المغربي وهذا ما جعل موقف المغرب غير مفهوم عند الآخرين كتاريخ وممارسة، و بالتالي اتخذت الجزائر مسألة الصحراء كذريعة للضغط والمناورة ولابد من اقتباس ما قاله الأستاذ العروي في كتابه الموسوم "بمجمل تاريخ المغرب"،"بأنه يصح القول لولا الموحدون لما ذكر المغرب في سجل الأمجاد كقوة مستقلة وفاعلة، وبقيت الدولة المومنية على مر العصور في الذاكرة مثل الشوكة والقوة والوحدة" ولابد من الإشارة إلى أن العقدة النفسية لدى الجزائر من هيمنة المغرب تعتبر محركا ذاتيا لتقويض أي محاولة للاتحاد.
أما على مستوى مواز فالجهوية بمعنى régionalisationالهادفة إلى تحقيق التكامل الاقتصادي والاجتماعي المبررة داخليا والمثمنة خارجيا فهي الافتراض الواقعي للخروج من النمطية في هذا الملف الشائك، أيضا يمكن أن يكون عنصر إدماج تنمويا وسياسيا على المدى المتوسط و البعيد. وبناء عليه فالخطورة الجدية لهذا الاتحاد هي بتذويب المكاسب دون مراعاة الجوانب السياسية والتاريخية والنفسية المتراكمة على عقود من الزمن، ومن الممكن أن تصبح هذه التقنية وسيلة جيدة لممارسة الديمقراطية، أما هذه التحركات الوحدوية الأخيرة فالأستاذ العروي لا يعترض عليها اعتباطا لكن من منطلقات تاريخية مدروسة.
النظام السياسي المغربي آفاق وتحديات
من الممكن أن تختلف مع الأستاذ عبد الله العروي أو تتفق مع طروحاته وهذا بديهي، لكن لا يسعك إلا أن تقرأ إنتاجه الفكري سواء كان إبداعيا أو تنظيريا فتخرج بخلاصات تثري الأبجدية المعرفية لديك وهذا في حد ذاته مكسب مهم، والحوار كأعلى المهارات التواصلية والتوظيف الذكي للمخزون الثقافي والتجربة الإنسانية أراد الأستاذ أن يجعل منه منبرا لتمرير الخلاصة والنتيجة التأملية. فعندما يصرح بأن محاولات فهمه للنظام le système تجعله يقع في لحظة اندهاش وبالتالي يخلص إلى أن اللامتوقع هو ما يصنع التاريخ، وباعتبار النظام مجموعة عناصر تشكل الكل المرتبط ببعضه البعض فلا شك أن صناعة التاريخ عنده قد انتظم فيه ما هو اجتماعي وسلوكي ومؤسساتي.
وعندما أقول إن الكلمة عند الأستاذ لها وضعها الدلالي والسياسي فالاندهاش نقرأه كحالة ايجابية لأنه لم يوظف مصطلح الاستغراب كحالة سلبية، فالتعجب أو الإندهاش يتم حينما نكون أمام حدث يترك أثرا ايجابيا على نفسية المتلقي، ولأن المتعجب منه هنا هو اتخاذ القرارات فهو مستحسن يثير الاندهاش. وهذه القرارات هنا تخص الملك الحسن الثاني بمختلف مظاهرها كخطاب سياسي من أجل التهدئة أو خطاب سياسي من أجل التنفيس عن أزمة داخلية يمر بها النظام نفسه، أو يمكن أن يكون تعديلا دستوريا أو رفض قوانين محل نقاش أو تأجيل توقيع قوانين، أو إبرام معاهدات أو اتفاقات، كذلك من الممكن أن تكون قرارات تعيين في مناصب عليا أو إقالات. فالملكية حسب رأيه خرجت من تجربة الاستعمار ودخلت غمار الاستقلال وما رافق ذلك من أزمات سياسية شكلت الأداة القانونية والإجرائية في اتخاذ القرارات والمواقف الموسومة بالحذر.
والدولة المغربية اتسمت بمسار تاريخي معين لم يزدها التطور اللاحق إلا رسوخا معترفا بخصوصياتها، وبما أن الفكر العروي متسم بالارتباط بالمفاهيم فلا حرية عنده إلا داخل الإطار المؤسس للدولة، والحرية تكون عقلانية ومسؤولة والدولة ديمقراطية وحديثة. وسؤال المؤرخ العروي عن تطور النظام في إطار الدولة القائمة مؤكدا على أن السلطة الملكية ضامن أساسي للاستقرار. وباعتبار العلاقة بين الشأن السياسي والشأن الديني وارتباطهما برباط من العلاقات المعقدة في تاريخ الأفكار والوقائع وتماشيا مع حالة الاندهاش التي لازمت الأستاذ العروي، فإنه يعترف للنظام السياسي بإمكانيته التفريق بين ما هو سياسي وما هو ديني في إطار الإدماج ضمن قواعد اللعبة السياسية المشروطة.
هذا كله بدعم الملكية الدستورية وتقوية الإجماع على مكانتها سياسيا ودينيا من أجل الاستقرار السياسي والاجتماعي، ويؤكد بأن السلطة الدينية مجال احتكاري للملكية توظفه رمزيا ودينيا وسياسيا حتى لا يُستغل سياسيا من فصيل دون آخر. وبالتأكيد على دعم السياسة الجهوية التي سيكون لها النفع الاقتصادي والاجتماعي وأيضا الثقافي إذ لا مجال للتنمية دون إدماج العوامل المؤثرة في الانطلاقة الاقتصادية الجهوية وتسوية المشاكل المتعلقة بالهوية الوطنية.
من منطلق مفهومه للدولة أثار العروي مسألة القبيلة كتركيبة اجتماعية متميزة وطبيعة نظمها السوسيو-الثقافية والسياسية، ونقده اللاذع لأبحاث الانتروبولوجيين النغلوساكسونيين باعتبارها مقولات فارغة. فالأستاذ يؤكد على أن القبيلة لا تصنع تاريخا ايجابيا. فالانتروبولوجيا الانقسامية اختزلت الأشكال الاجتماعية المغربية داخل بنية واحدة وتهمل عنصر المضمون المعبر عن التمايز، بالتالي وجب وصف القبيلة من منطلق عناصر ملموسة وليس افتراضية، فالمجتمع المغربي حسب -ريتشارد -ليس انقساميا إذن ليس هناك من داع للبحث عن تعريف دقيق للقبيلة المغربية.
فالسيرورة التاريخية للتحولات الاجتماعية لابد من تدقيقها لمعرفة عوامل التحولات فالمخزون كمكون خاص بالتجربة السياسية والاجتماعية للمغرب، هو المنظم للحركة وصناعة القبيلة للتاريخ سلبا يمكن إرجاعه إلى مسلمة وجود الدولة ممثلة في الزاوية باعتبارها جزءا من نظام أعم وأشمل يمثله المخزون وبالتالي فلا استقلالية للقبيلة إلا نسبيا و بشكل محصور. وهنا ينبغي فهم ما قاله الأستاذ العروي في سياقه باعتبار العلاقة بين ما هو محلي-القبيلة والزاوية- وما هو مركزي- السلطة المركزية.
لقد دافع الأستاذ عبد الله العروي عن الدولة الحديثة المميزة بالعقلنة وهو مقتنع بفكرة مونتسكيو القاضية بأن الإصلاح يجب فرضه من فوق، في إطار المواطنة الملتزمة بالمصلحة العليا، ومن ثم فقد وسم شباب 20 فبراير بالحشد الذي يتحرك في كتلة بشرية ضخمة تتسارع فيها الأحداث بشكل غير مدروس وبالتالي فلابد من حصر هذا الفهم في الإطار غير القدحي باعتبار أن هذا الحشد كان له دور في سيرورة التاريخ المغربي، أما الوثيقة الدستورية فأمر طبيعي أن ينكب عليها الدارسون شرحا و قراءة. فالعبرة عنده بالنتائج بدل التغني بالمنجزات الورقية والتحشيدية وهذا يسري على الحكومة كمسيرة للشأن العام فلابد من التعاطي معها بمنطق الانتاجية.
وأخيرا فعبد الله العروي لا يناقض مفاهيمه إن على مستوى الحوار أو الممارسة الفكرية؛ وهو يحترم منطق الدولة ويؤكد على التزام خصوصيات المغرب تاريخيا وجغرافيا. فالمثقف يلاحظ ويقول والحل يبقى بيد السياسي الذي له إكراهاته كما المثقف، والإصلاح الثقافي مرهون بالإصلاح السياسي والاقتصادي كضرورة وحاجة، ودعوته للحداثة كمدخل للنهوض منطلقا من الدولة والمجتمع المدني والأحزاب.
ويتحدد التأخر التاريخي عند الأستاذ العروي في اللاتاريخية والانتقاء والنقص الإيديولوجي وتخلف الذهنية، ولا مجال إلى التقدم دون المعالجة الواعية والواقعية لهذه المحددات وهذا هو المشروع الفكري الذي بنى عليه نقد التراث الإسلامي العربي.
* عن جريدة العرب